
علم الجمال الإسلامي (2)
الشيخ. عبد الخالق عطيفيالجمال في القرآن الكريم
القرآن الكريم هو ذلك الكتاب الذي يحوي بين جنباته كلامَ الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والناظر في هذا الكتاب المعجز متأملا في كيفية عرضه للقضايا والتشريعات والأحكام يشاهد تصويرا رائقا فائقا لمشاهد الآخرة وأحداث الحياة الدنيا مستعملا القصة وضرب الأمثال في أسلوب جذاب وتعبير متأنق تدهشك مفرادته وتأسر روحَك روعةُ تركيباته، وإذا تنقلت بين الألفاظ المتأنقة والتراكيب المتناسقة ولامست شغاف قلبك معان شريفة منيفة وجدت روحك تعانق عنان السماء تتقلب في طبقات من الحسن والجمال والبهاء وكأنه كتاب جاء ليقر في الأكوان معنى واحدا تتولد منه كل المعاني ألا وهو (إن الله جميل يحب الجمال) ومِن حبه سبحانه للجمال ملأ كتابه المسطور بكل جميل وجعل الكون كله مظهرا لهذا الجمال الذي تشرف بأن يكون صفة للبديع سبحانه ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14].
ومن هنا ذهبنا نرتشف من معين القرآن الذي لا ينضب قطرات من فيوضات جماله وإمدادات حسنه وبهائه.
وإذا كان مبتغانا الجمال فلننظر أول ما ننظر عن ورود هذه اللفظة الشريفة في القرآن الكريم وياللعجب فإن هذه الكلمة ( الجمال ) لم ترد في كتاب الله تعالى إلا مرة واحدة حيث يقول مولانا جل وعلا في سورة النحل : ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: 6]، وكأنه مصدر متفرد يعبر أصدق تعبير عن إبداع الواحد سبحانه وإذا عاش الإنسان في جمال فإنه يكون في معية الله سبحانه فلا تراه إلا سعيدا مسرورا نضر الوجه طيب الروح زكي العقل، ولازِم الجمال إدخال السرور على القلب؛ ولذا قال أهل التفسير في هذه الآية الكريمة : (يسرون عند الإراحة والتسريح، وذلك السرور يظهر في وجوههم؛ فإذا ظهر ازداد لهم جمالا وحسنًا، وهكذا المعروف في الناس: أنهم إذا سروا يظهر ذلك السرور في وجوههم؛ فيزداد لهم بذلك جمالا، وإذا حزنوا وأصابهم غم - يؤثر ذلك الغم نقصانًا في خلقتهم؛ فيزداد لهم قبحًا وتشويهًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا أراحوها أو سرحوها رأى الناس أن أربابها أهل غنى؛ وأهل ثروة، وأنهم لا يحتاجون إلى غيرهم، وأن يكون لغيرهم إليهم حاجة؛ فيكون لهم بذلك ذكر عند الناس وشرف، وذلك جمالهم وشرفهم فيها، والجمال لهم فيها ظاهر؛ لأن ما يبسط ويفرش إنما يتخذ منها ومن أصوافها، وكذلك ما يلبس إنما يكون منها، وإنَّمَا يبسط، ويفرش، ويلبس للتجمل والبهاء. واللَّه أعلم.[1]
فأنت عندما تنظر إلى النعمة فإنك تسر وتسعد قال ربنا سبحانه في صفة بقرة بني إسرائيل : ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ [البقرة: 69]؛ فكل جمال مدعاة للسعادة والسرور وما خلقنا الله تعالى في هذه الحياة لنشقى بل لنسعد ونفرح قال تعالى : ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 2] وقال سبحانه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]؛ ومن هنا كان تذوق الجمال والحرص على نثره بين الناس عبادة ولم لا، وكل طاعة لله لابد وأن تغلف بشئ من الإحسان والإتقان حتى تقع على الوجه الأكمل والأحسن؟، ويصرح القرآن الكريم بذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 121]، وقوله جل شأنه في حق سيدنا موسى عليه السلام: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145]. ولأهمية مراعاة الإحسان والجمال في الأعمال ورد لفظ (أحسن) في القرآن الكريم (53) مرة ، منها على سبيل المثال قوله تعالى ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7]، وقوله سبحانه : ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: 64]، وقوله جل وعلا: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14] فكن جميلا تكن عابدا وكن عابدا تكن جميلا، ولا ريب أنك إذا طالعت كتاب الله تعالى وجدته يزخر بالجمال ويدل عليه بل ويجعله صفة لازمة لكل سلوك يأمر به الطائعين واصغ السمع إلى قوله تعالى : ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]، وقوله: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ [المعارج: 5]، وقوله : ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]، وقوله سبحانه : ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 49]
تُرى بعد هذا التطواف في نزر يسير من كتاب الله تعالى هل يبقى لديك أدنى شك في أن القرآن الكريم بكل تشريعاته وأحكامه وقضاياه وقصصه وأمثاله وقيمه ومثله إنما جاء ليقر في الأذهان معنى الجمال وليعرف الخلق إلى خالقهم الجميل؟!، وصدق سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: "إن الله جميل يحب الجمال"[2].
[1] تفسير الماتريدي ج6 ص 476 ط دار الكتب العلمية.
[2] صحيح مسلم كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه ح 147.