
عرض لكتاب مكونات العقل المسلم (2)
د. أحمد ريحانبسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. نستكمل في هذا المقال ما بدأناه في استعراض تعريف وماهية العقل كما طرحهما مولانا رضي الله عنه في كتابه المهم "مكونات العقل المسلم".
ماهية العقل ووظيفته
يمنع العقل الإنسان من فعل المهلكات، حتى قيل أن: "العاقل خصيم نفسه" أي أنه يحاسب نفسه أولًا بأول، وفي الباب الثاني من الكتاب يفصّل مولانا ما تم طرحه في الباب الأول عن المعاني المكونة لمفهوم العقل .. وهي كالآتي:
1 - الحواس:
إذا تخيلنا إنسانًا خُلق أعمى وأصم وأبكم فهو غير مدرك للعالم من حوله بشكل كامل مما يستوجب رفع التكليف عنه، ويضرب مولانا مثلًا بالأمريكية هيلين كيلر المولودة سنة 1880، فقد أصيبت في عُمر سنة بفقدان السمع والبصر لكن معلمتها استطاعت أن توصل المعلومات لها عن طريق الإشارة باللمس، و استمرت بالتعلم حتى قامت بتأليف رواية، ورغم كل ما فعلته في تحدي إعاقتها فإنها شرعًا غير مكلفة.
2 – الدماغ:
هو المخ الذي يجتمع فيه ثلاث قوى رئيسية كما ذكرها القدماء:
أ - قوة تدرك المحسوسات بالحواس
ب - قوة تدرك المعاني
ج - قوة تربط بين المحسوس والمعنى
إذا حدث خلل في إدراك أي من الأحوال كالزمان الذي يعيش فيه والمكان الذي يسكنه والأشخاص الذين يتعامل معهم فلن يستطيع الإنسان أن يفكر تفكيرًا منضبطًا وكل هذا يدل على خلل في الدماغ ويلزم عدم الاعتماد على حكم هذا الإنسان على الأمور.
3 - الواقع
يعيش الإنسان تجارِبَ يتقلب فيها أو تنتقل له من موروثاته وعاداته الثقافية، وكل هذا يُسْهِم في تكوين عقله، فإذا فرضنا أن إنسانًا قد خلق في "اللا شيء" مثل الفضاء التام فسوف يدرك الإنسان نفسه ولكنه لن يدرك غير ذلك لأنه لا يوجد شيء يفكر فيه فيصبح الفراغ في العقل كما هو في المحيط حوله، فالواقع مكوّن أساسي من عملية التفكير.
4 - المعلومات السابقة
يولد الطفل ناقص العقل حتى يبدأ بتحصيل المعلومات، فيتحصل عليها من أسرته أولًا ثم العالم الخارجي. ويستمر الطفل في تحصيل المعلومات بلا تكليف حتى يصل لمرحلة البلوغ التي يبدأ معها الشعور بالجوانب الجنسية فينبهه الشرع أنه أصبح مسئولًا عن أفعاله فيأمره بالعفة.
وإذا سأل سائل ما يميز المسلم عن غيره؟ فجميع المعاني التي ذكرت أعلاه موجودة عند غير المسلم، فعقل المسلم وغير المسلم يجتمع لديهما وجود الحواس والدماغ والواقع المعيش، لكنهما يختلفان في جانب المعلومات السابقة. فيوضح مولانا الإمام: أن المسلم لديه موروث ثقافي يميزه عن غيره وتجتمع هذه الموروثات في عقل المسلم حتى نقول أن هذه "عقلية إسلامية" يعني نشأت في الثقافة والواقع الإسلامي بتراكماته.
و من هذه الموروثات ما تناقله العلماء لتعريف العقل عن طريق فهم أحكامه. فيقول الإمام الدردير في خريدته البهية:
أقسام حكم العقل لا محالة ********** هي الوجوب ثم الاستحالة
ثم الجواز ثالث الأقسام ********** فافهم منحت لذة الأفهام
فأي شيء يُحكم عليه عقلًا بأنه واجب أو جائز أو مستحيل الحدوث، ولا يخرج حكم العقل عن هذه الثلاثة.
ويذكر مولانا تعريفًا آخر جميلًا ذكره الحارث المحاسبي أنه: "نور في القلب يُولد العبد به و يزيد فيه معنى بعد معنى بالأسباب الدالة على المعقول”.
ثم ينتقل الكتاب ويعرض وظائف العقل وهي:
1- التلقي من الحواس السليمة
2 - الفهم، الذي يستلزم فهم اللغة و الرموز وعالم الأشياء
3 - الحفظ وهي قدرة فائقة على تخزين المعلومات
4 - استرجاع المحفوظ من المعلومات
5 - ربط المعلومات بعضها ببعض
6 - الاستنتاج
7 – الأداء للمعلومات المختزنة
كل هذه الوظائف حثَّنا القرآن الكريم على استخدامها بالتفكر والتدبر في العوالم حولنا كعالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأحداث والعالم النظم وعالم الرموز وعالم العلاقات وكل هذا يمثل الواقع المعيش من حولنا.
كما يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: (( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ) [191: آل عمران ]
… يتبع