
عرض لكتاب مكونات العقل المسلم (5)
د. أحمد ريحانحدود التفكير
في المقال السابق تكلمنا عن مصادر العلوم في الثقافة الإسلامية والتي منها القطعي ومنها الظني، وعند عرض هذه القضية قد يتساءل البعض ويقول لماذا تقيدون التفكير الحر جاعلين حدودًا للفكر الإسلامي وتحصرونه في العمل بالوحي من قرآن وسنة؟
يفصل مولانا منهجه في هذه القضية في البداية بتأكيد على أن العلم لا نهاية له مستخدمًا مثالًا للإمام الرازي قارن فيه بين شمس الكون و شمس المعرفة؛ فشمس الكون ترقى إلى أعلى نقطة لها في السماء وهي وقت الظهيرة ثم تنزل مرة أخرى في اتجاه الغروب على عكس شمس العلم التي لا تعرف نهاية في الترقي فالعلم ليست له نهاية ولا يعرف الكلمة الأخيرة.
فكل محاولاتنا لفهم كتاب الله المسطور وهو القرآن أو كتابه المنظور "الكون" هي محاولات لفهم علم الله غير المتناهي.
"وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (27) سورة لقمان
ثم يفصل مولانا مجالات إعمال العقل التي أمرنا الله أن نتفكر فيها؛ وهي:
1- التدبر في القرآن
2- التفكر في الكون
3- تعلم العلوم النافعة للإنسان التي ترجع عليه بالخير
ومما يدل على أن الموروث الثقافي الإسلامي لم يضع حدودًا في التفكير أننا نجد أن علماء المسلمين قد استخدموا الاستدلال العقلي في إثبات وحدانية الله عز وجل مستعينين بمثال عقلي وضعه الله كمنهج في التعامل مع من يشكك في نصوص الوحي ومرجعيتها.
ففي الآية رقم 22 من سورة الأنبياء يقول الله في كتابه الكريم :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ " ومن هذه الآية استنتج علماء المسلمين قاعدتين تدلان على وحدانية الخالق:
القاعدة الأولى:
1- "الضدان لا يجتمعان ": أي لو كان هناك إلٰهان وأراد كل منهما عكس الآخر لزم عجز أحدهما.
2- "استحالة اجتماع مؤثرين على أثر واحد " : أي لو أراد إلٰهان أن يخلقا الكون لزم من أحدهما تحصيل الحاصل وهو ما لا يجوز في حق الإله.
ثم ينتقل مولانا ويعرض الفرق بين الشك والتشكك في القطعيات، فهناك "الشك المنهجي" بهدف التوصل إلى اليقين وهناك "التشكك" وهدفه الهدم. الشك المنهجي يكون محمودًا ، وعلى النقيض فإن التشكك الدائم المؤدي إلى الحيرة وهدم المسلمات مذموم.
والقرآن الكريم تعرَّض لحالتين تدلان على جواز الشك المنهجي في المسلمات بهدف الوصول إلى الطمأنينة؛
الموقف الأول عندما طلب نبي الله إبراهيم عليه السلام أن يرى بعينيه كيف يحيي الله الموتى، والموقف الآخر عندما طلب سيدنا موسى عليه السلام رؤية الله عز وجل.
وكما هو معروف أن النبي لا يجوز في حقه التشكك لكن الإيمان قد يحتاج إلى الاستدلال المنطقي كي يستقر العقل والقلب لما يؤمن الإنسان به وينتقل من مجرد الإيمان بالسماع عن الشيء إلى الإيمان بعد معاينة الشيء و مشاهدته.
إذن لم يقيد الموروث الثقافي الإسلامي العقلَ، ولكنه جعل له وِجهة و منهجًا، هدفه الإصلاح وتحقيق الخير، وإذا كان هناك سبيل للشك فإنه يكون ممنهجًا، بهدف الوصول إلى اليقين والطمأنينة.
يتبع …