السنة الثالثة جمادى الآخرة 1445 هـ - يناير 2024 م


مولانا الإمام أ.د. علي جمعة
افتتاحية العدد - 12
مولانا الإمام أ.د. علي جمعة

دعوة زيارة القدس الشريف

أتذكر منذ سنوات وكنت أقف على المنبر في خُطبة الجمعة، ودعوت الله سبحانه وتعالى ألا يقبضني إليه إلا وقد صليتُ في الأقصى، وبعد ساعات من هذه الخُطبة، اتصل بي مسئول أردني كبير، وقال لي يوم الأربعاء سنذهب إلى القدس الشريف وقال لي إن هذه أول مرة يذهب هو إلى القدس، وسألني: هل تأتي معي؟ قُلت له على البداهة: وهل استمعتَ إلى الخطبة؟ قال أي خطبة؟ قلت: خطبتي يوم الجمعة، قال: لا لم تصل إلينا!!

وذهبت من غير استئذان من أحد وكانت البلاد تحت إمرة الجيش المصري المبارك، لم أستأذن من أحد لأنهم لو منعوني لذهبت، فلم أرد أن أُحرج أحدًا وذهبت، وطُيِّرَ الخبر في يوم الثلاثاء، فرأيت الجانب المصري يتصل بي ويسأل عن حقيقة ذلك الخبر، هل صحيح ستزور القدس؟ قلت لهم: نعم، هذه استجابة لدعوة، وأنا لا ألعب مع ربي، دعوتُ الله فاستجاب لي خلال ساعات، قالوا: لا نرى ذلك، ونرجو منك العودة، قلت لهم: وأنا لا أعود إلا وقد صليت في القدس، قالوا لي: إذن التفت إلى نفسك فإن الأمر خطير، وحياتك محل عدوان وعندنا معلومات، قلت لهم: الأجل واحد والرب واحد، والحمد لله رب العالمين، وإذا كان الله قد استدعاني من مصر إلى القدس لأموت فيها شهيدًا فنعم الشهادةُ هي.

وذهبنا يوم الأربعاء وصليت في القدس، ولما نزلنا من المسجد كان الناس يهتفون في الشوارع وأنا ذاهب إلى كنيسة القيامة، بعدما صلينا في المسجد الأقصى ويطالبون المسلمين بأن يملؤوا القدس، اليهود فقط موجودون ويحجون من كل أركان العالم يحجون إلى القدس، أين المسلمون؟ لا وجود لهم لأن الإخوان المسلمين منعوا الذهاب إليها ورأوا أن في هذا نوعًا من التطبيع، وخالت الخُدعة على المسلمين. واستغاث أهل القدس فلم يذهب لهم أحد، فاضطر التاجر المقدسي إلى بيع الطواقي اليهودية حتى يأكل. وهو يريد أن يبيع المصاحف والمسابح والأشياء التي يشتريها المسلمون كسجادة الصلاة، لكنه لا يجد. واليهودي الذي يريد أن يشتري أرضه بالأموال وبعقد بيع حرمناه فيما سبق، وأسميناها أحكام الأمة؛ وأحكام الأمة تأخذ شكلًا  آخر غير أحكام الأفراد وهذا حدث في الترنسفال -في جنوب إفريقيا- عندما سأل المسلمون عن حكم لباس البرنيطة، ولا بأس بها، فالمسلم في لندن يلبس البرنيطة، لكن في الترنسفال تكون علامة على المحتل البغيض فحرمها العلماء، وكذلك الامتناع عن أكل البقر، مسلمون كثر يمتنعون عن أكل البقر، كل الجزيرة العربية لا تأكل البقر، يأكلون الإبل والأغنام لكنهم يعافون البقر، فلما أتى جلال أكبر وأراد أن يوحد بين الهندوكية والإسلام، قال المسلم يظل كما هو مسلم ويمتنع عن أكل البقر وانتهينا، فقام الشاه الدهلوي وقال: أكل البقر أكبر شعائر الإسلام، فما هذا؟، هذا حكم خاص بمن دعا وكان ملكًا -من ملوك المغول- إلى الوَحدة بين الهندوك والمسلمين، وهكذا فبيع أراض القدس لليهود حرام، والبيع لليهودي ليس حرامًا أصلًا، ظللنا نبيع ونشتري منهم على مر الزمان، أما في القدس والآن فحرام.

ذهبنا إلى القدس وصلينا فيها واستقبلنا شعبها وحمَّلَنَا رسالة: أهل القدس يستغيثون بكم .. اذهبوا يرحمكم الله، اذهبوا إلى القدس حتى تفزعوا بني صهيون، حين يرونكم هكذا تتوافدون جماعات إثر جماعات إلى بيت المقدس سيخافون، فما أجبنهم!، اذهبوا إلى القدس حتى تروها وتحبوها فالبعيد عن العين بعيد عن القلب.

بيت المقدس نور من الأنوار، ولما دخلت المسجدَ دخلت خيمة نور ولما سرت فيه قليلًا دخل النور في فمي فملأ جسدي ولا يزال يفعل ذلك وكلما تذكرت هذا النور تعجبت لأنه نور خاص لا وجود له في الكعبة ولا وجود له عند سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو نور الأنوار وسر الأسرار وترياق الأغيار، نور خاص به، وكأنه تأتَّى من صلاة الأنبياء فيه والساحة 144 ألف متر والإنسان يأخذ مترًا وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ124 ألف نبي والبقية من ال20 ألف كانوا من الملائكة الكرام في هذه القمة قمة داريا، وهذه الصلاة يبدوا أنها أنارت المكان نورًا خاصًّا، وفهمتُ حينئذ ما لم أكن فهمته من قبل؛ أن سيدي علي البيومي كان يُسمى بغريق النور وكنت أتعجب وأقول لعله مجاز فكيف يغرق أحدهم في النور؟ حتى دخلت الأقصى فغرقت في النور.