
دلائل الخيرات: أجل كتاب في الصلاة على سيد الكائنات
د. محمد وسام خضر"دلائل الخيرات": هو "أجلّ ڪتاب أُلف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" كما يقول شيخ الشافعية في عصره العلامة الفقيه سليمان الجمل [ت1204هـ] في شرحه "المنح الإلهيات" (ق: 4، مخطوط)، وهو الكتاب الذي "عمَّت بركته الأرض"؛ كما يقول الإمام أبو العباس أحمد التُّنبكتي [ت1036هـ] في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" (ص: 545، ط. دار الكاتب)، "ورزقه الله من القبول والاشتهار ما لم يُعْط لغيره"؛ كما يقول حافظ عصره العلامة محمد مرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (3/289، ط. المطبعة الميمنية 1311هـ).
وقد اعتمد العلماء والأئمة هذا الكتاب الجليل عبر الأعصار، وأوصوا به في مختلف الأمصار، وكُتِبَ له من القبول في الأمة الإسلامية ما لم يُكتَب لغيره من الكتب والمصنفات في هذا الموضوع على كثرتها، وقد لهج به العلماء والأولياء والصالحون ذكرًا وقراءة وشرحًا منذ زمان تأليفه إلى يومنا هذا، من غير نكير.
اسمه ومؤلفه
واسم هذا الكتاب المبارك: "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار، في ذكر الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم" للإمام الشريف الحسيب النسيب زين الأولياء وسيد العلماء العارف بالله تعالى الشهيد أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الحسني المالكي [ت870هـ]، صاحب القدم الراسخ في فقه الإمام مالك رضي الله عنه؛ حتى كان يحفظ كتاب "المدونة" عن ظهر قلب، ويحفظ فَرْعِيَّ ابن الحاجب؛ كما جاء في "كفاية المحتاج" (2/181، ط. أوقاف المغرب)، و"ممتع الأسماع" (ص: 6، ط. مطبعة حاضرة فاس).
منهجه ومستنده
و"دلائل الخيرات" هو كتاب جمع فيه مؤلفه كثيرًا مما ورد في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفضلاء الأخيار، والعلماء الأبرار، والأولياء الأطهار، مما رتبوه في أورادهم أو سطروه في تآليفهم، ومما فتح الله به على مؤلفه رضي الله عنه؛ ممتثلًا بذلك الأمر الشرعي بإحسان الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الوارد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعًا: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْه» رواه ابن ماجه في "السنن"، وعبد بن حميد وأبو يعلى في "المسند"، وابن أبي خيثمة في "التاريخ"، وغيرهم، وحسّنه جمعٌ من الحفّاظ كالمنذري، وابن حجر، وصححه الحافظ مغلطاي.
وإحسان الصلاة: يحصل بكل ما يؤكد مقاصدها، ويبلغ مرادها، ويفصح عن الشرف النبوي، ويبين مظاهر الكمال المحمدي؛ اعتناءً واقتداءً، وتمجيدًا وثناءً، وفي ذلك إذنٌ بالصلاة عليه بكل ما يمكن ذكره به من صيغ حسان، وأوصافٍ ومعان، وإذن باستحداث ما يستطاع من الصيغ الفصيحة المعبرة عن ذلك؛ على وسع ما تصل إليه بلاغة المرء في التعبير اللائق عن خير الخلائق صلى الله عليه وآله وسلم من غير تقيد بالوارد؛ كما قرره المحققون ودرج عليه العلماء والصالحون، سلفًا وخلفًا من غير نكير؛ حتى فعل ذلك الصحابة والتابعون، وتتابع عليه العلماء والأولياء والعارفون، عبر الأعصار والقرون، وتفنن علماء الأمة وأولياؤها وعارفوها في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نثرًا ونظمًا بما لم تبلغه أمة من الأمم في حق نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
قال الحافظ جمال الدين بن مُسْدِي [ت663هـ] -فيما نقله عنه الحافظ السخاوي في "القول البديع" (ص: 146، ط. الريان)-: [وقد رُوِيَ في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديثُ كثيرة، وصنَّف في ذلك جماعة جمعوا الأبواب وهذَّبوا التراجم.
وذهب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم: إلى أن هذا الباب لا يوقف فيه مع المنصوص، وأن من رزقه الله بيانا فأبان عن المعاني، بالألفاظ الفصيحة المباني، الصريحة المعاني، مما يُعرِب عن كمال شرفه صلى الله عليه وآله وسلم وعظيم حرمته، كان ذلك واسعًا، واحتجّوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "أحسنوا الصلاة على نبيكم؛ فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعرَض عليه"] اهـ.
تواتر الثنـــاء من العلماء والأوليـــاء
ولمّا كان هذا الكتاب الشريف المبارك العالي القدر من أعظم مظاهر امتثال الأمر الشرعي بإحسان الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد سرى في الأمة مسرى الشمس في الآفاق، وانعقدت عليه الخناصر، وتعلقت به الأواصر، وعُقِدَت له المجالس، وانهالت عليه المدائح، التي جادت بها من العلماء القرائح، بعد أن من الدلائل طيبات الروائح:
فوصفه العلامة المحقق عبد الرحمن بن محمد الفاسي المالكي [ت1036هـ] في شرحه "الأنوار اللامعات في الكلام على دلائل الخيرات" (ق: 4/أ، مخطوط) بأنه "مِن أفضل ما صُنِّف في كيفية الصلاة على النبي المختار، وكان الاعتكاف والدوام على قراءته من وظيفة الأبرار، ومن أجَلِّ ما تحلَّى به -حتى صار هِجِّيرَاهم- المقربون الأخيار".
وعده العلامة الحاج خليفة [ت1067هـ] في "كشف الظنون" (1/759، ط. مكتبة المثنى) "آية من آيات الله في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، يُواظَبُ بقراءته في المشارق والمغارب، لا سيما في بلاد الروم".
ومدحه مفتي فاس الإمام العارف الرحّالة أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العَيّاشي [ت1090هـ]، ووصف ما يحتويه بقوله:
عليك بما يحـــــويه هذا المؤلَّـفُ .. ففيه غنى الدارين إن كنت تعرفُ
فلازمه واستمسك به إن تكن فتى .. لديك إلى حُبِّ الرســـــول تَشَوُّفُ
حوى صلوات طيبـــات كثيرة .. على المصطفى أزهارها منه تقطف
فمنهـــا الذي قد انشـــــأته أئمـــة .. وأخرى أتت فيمـــا روَوْه وصنفوا
(دلائل خيرات) فوائد نعـــمة .. شــــوارق أنـــــوار بهـــا تتشــــرف
ينابيع رحمات موارد حڪمة .. حــــدائق جنـــاتٍ من الله تُزلِفُ
وجامعهـــا فرد الزمـــان وغــوثه .. أقر له بالفـضل مَن هو منصــــف
له في مقـــامات اليقين تمڪن .. وسر خفي في المعـــارف يلطــف
جزاه إله العرش عن جمعه الذي .. به يترقى الســـالك المتصــــــــــوف
فلا تعدون عينـــاك عنــــــه فإنه .. ڪتاب بأنوار الفضــائل يعرف
لقـــارئه الحســــنى غدا وزيـــادة .. وقرب مڪين بالمواهب ينطف
وقال فيه العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد المهدي بن أحمد الفاسي المالكي [ت1109هـ] في كتابه "ممتع الأسماع بمناقب الشيخ الجزولي والتباع، ومن لهما من الأتباع" (ص: 9، طبعة حجرية): [قد نفع الله به العباد، وأخذ بالأسانيد المحررة وأقبل الناس عليه، وسار فيهم مسير الشمس والقمر، واشتهر في البدو والحضر، وانكبوا عليه في مشارق الأرض ومغاربها دون غيره من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كثرتها وأسبقيتها، ويجدون له بركة ونورًا] اهـ.
وقال العلامة الفقيه حمدون بن محمد الطاهري الجوطي الفاسي [ت1191هـ] في "تحفة الإخوان ببعض مناقب شرفاء وزان": [وكفاه هذا التأليف العظيم شهادة على سمو قدره، ونمو فخره، وأثر كسوة قلب مؤلفه عليه ظاهر، ومنه لائح، وشدة شغفه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهالكه في حبه منه واضح، وريح الجنان والعطر منه ساطع وفائح، يستنشقه كل عارف وولي صالح] اهـ.
وقال الإمام العارف شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن أحمد السجاعي الشافعي الأزهري [ت1197هـ] في شرحه الذي سمّاه "بدء الوسائل، في حل ألفاظ الدلائل" (ق: 1أ، مخطوط): [هذا تعليق لطيف، ومنهج منيف، على دلائل الخيرات، للولي الكامل، والعارف الواصل، أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي، ذي الكرامات الباهرة، والأحوال الناضرة، والتلامذة الناصرة] اهـ، وقد انتهى من تأليفه هذا عام 1179 هجرية.
وعده شيخ الشافعية في عصره العلامة سليمان الجمل [ت1204هـ] في شرحه "المنح الإلهيات" (ق: 4، مخ) "أجلَّ كتاب أُلف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، وقد انتهى من تأليفه عام 1191 هجرية.
وذكر حافظ عصره العلامة محمد مرتضى الزبيدي [ت1205هـ] في كتابه "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" (3/289، ط. المطبعة الميمنية 1311هـ) "أن الله رزقه من القبول والاشتهار ما لم يُعْط لغيره؛ فولعت به الخاصة والعامة، وخدموه بشروح وحواشٍ، وما ذلك إلا لحسن نية صاحبه وخلوص باطنه في حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم".
وقال فيه العلامة الشيخ حسن العدوي الحمزاوي [ت1303هـ] في كتابه "بلوغ المسرات على دلائل الخيرات" (ص: 1، طبع حجر): [وكفى بهذا الكتاب شرفًا؛ حيث بلغ في الانتفاع والقبول، ما تحتار فيه العقول ولا يحصى] اهـ.
وقال العلامة الشيخ أبو الفتح محمد بن عبد السلام بن بوستة البناني المالكي [ت1346هـ] في كتابه "النعم الجلائل في التعريف بالشيخ مولانا محمد بن سليمان صاحب الدلائل" (ق: 20أ، مخطوط): [وبالجملة: فهذا الكتاب المبارك من أحسن الذخائر وأعظم البشائر، تلوح على قلوب العارفين له الأسرار، وتشرق فيها الأنوار، وتنجلي ببركته الهموم والأكدار، فله الفضائل التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، والبركات التي لا تُحَدُّ ولا تُستَقْصَى] اهـ.
وقال العلامة عبد المجيد الشرنوبي الأزهري المالكي [ت1348هـ] في "شرح دلائل الخيرات" (ص: 1، ط. مكتبة الآداب): [كتاب "دلائل الخيرات" من أنفس ما يُتَقَرَّب به إلى سيد السادات] اهـ.
إلى غير ذلك من عبارات الثناء العاطر والمدح السائر، التي تبين أن هذا الكتاب قد رزق من القبول في المسلمين عامتهم وخاصتهم ما لم يرزقه غيره، وحاز من الحظوة والانتشار ما لم يَحُزْهُ أي كتاب، وعم دخوله كل البيوت وجميع الطبقات، وقرأه حتى ربات الخدور، ورأى المسلمين من خيره وبركته ما لا يحصى من بلوغ الآمال، وعم الانتفاع به في المشارق والمغارب عبر العصور والأجيال، وشاهدوا له من البركات والأنوار ما لا يخطر على بال، وتنافس الناس في كتابته ونسخه؛ حتى إن المتتبع لنُسَخِه المخطوطة المبثوثة في مكتبات العالم يجده في المرتبة الأولى في عدد المخطوطات الإسلامية.
ڪثرة شروحه وحواشيه
وشرحه من العلماء جمعٌ لا يحصَون كثرةً:
فمنهم: تلميذه العلامة العارف سيدي أحمد زروق البرنسي [ت899هـ]؛ كما في "طبقات الشاذلية الكبرى" للشيخ الكوهن [ت1347هـ] (ص: 123، ط. المطبعة العلامية).
ومنهم: العلامة الملا علي القاري الحنفي [ت1014هـ].
ومنهم: العلامة عبد الرحمن بن محمد الفاسي القصري [ت1036هـ].
ومنهم: العلامة عمر بن خطاب الشنواني [ت1167هـ].
ومنهم: العلامة أبو بكر بن اسماعيل المزجاجي [ت1167هـ].
ومنهم: العلامة الفقيه المحدث حسن بن علي الأزهري الشهير بالمدابغي [ت1170هـ].
ومنهم: العلامة أبو الفتوح الدباغ الحلبي الشافعي المعروف بالميقاتي [ت1174هـ].
ومنهم: العلامة أبو البركات عبد الله بن حسين السويدي البغدادي [ت1174هـ].
ومنهم: شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد السجاعي المصري الأزهري [ت1197هـ].
ومنهم: شيخ الشافعية في زمنه العلامة سليمان العجيلي المعروف بالجمل [ت1204هـ].
ومنهم: العلامة الولي العارف والفقيه المحقق حسن العدوي الحمزاوي [ت1303هـ].
ومنهم: مفتي حلب العلامة أحمد بن عقيل العمري الشهير بالزويتيني [ت1316هـ].
ومنهم: العلامة عبد المجيد الشرنوبي الأزهري [ت1322هـ].
ومنهم: العلامة يوسف بن إسماعيل النبهاني [ت1350هـ].
ومنهم: العلامة الحافظ محمد عبد الحي الكتاني [ت1382هـ].
وانظر لمزيد الاستزادة من شروح الدلائل: "جامع الشروح والحواشي" لعبد الله الحبشي؛ حيث عدَّ له أكثر من أربعين شرحًا (2/901-906، ط. المجمع الثقافي أبو ظبي).
ظهور نابتة الخوارج
ومنذ أن منّ الله تعالى على الإمام الجزولي صاحب "الدلائل" ببركة تصنيفه ووضعه، وحسن تأليفه وجمعه، والأمة الإسلامية -بمحدثيها وفقهائها، وعارفيها وأوليائها، وعلمائها وعوامها، ورجالها ونسائها، وكبارها وصغارها، جيلا وراء جيل، وقرنًا بعد قرن- مقبلةٌ على هذا الكتاب المبارك، تَرِدُ مواردَه الشريفة، وتنهل من مناهله العطرة، حتى ظهرت النابتة المتشددون في أواخر القرن الثاني عشر الهجري فنشروا مناهج الخوارج بتكفير الأمة وتبديعها، فكفَّروا المسلمين ظلمًا وبغيًا وعدوانًا، وحاربوا هذا الكتاب المبارك، حتى بلغ بهم الحال أن سعوا في إحراقه وإحراق غيره من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما يذكر الإمام العارف قطب الإرشاد الحبيب علوي بن أحمد الحداد [ت1232هـ] في كتابه "مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام" (ص: 4، ط. المطبعة الشرفية 1325هـ)، ولكن الله قيض من ردوا إفكهم وأظهروا باطلهم.
وما يزعمه بعض جهلة العصر حول هذا الكتاب المبارك من أنه ممتلئ بالشرك والبدعة: هو من التطاول بالباطل والجراءة في الإفك؛ فإن دعوى احتواء كتابٍ -هذا شأنُه عبر الأمصار والأعصار، وهذه منزلته في الأمة الإسلامية- على الشرك والبدعة، يستلزم تكفير علماء المسلمين وأئمتهم، واتهامهم بنشر الشرك والسعي في البدعة، وهذه دعاوى الخوارج، ومناهج أهل الضلالة، الذين يأبون إلا أفهامهم السقيمة، ذات العواقب الوخيمة والبلايا العظيمة، التي تسفك بسببها الدماء، وتستحل لأجلها الحرمات، وما أسهل التكفير على محرومي التفكير، وما أيسر التضليل على من ضل السبيل!
شبهات وترهات
والشبهات التي يسوقونها في العادة شبهات واهيات ومغالطات وترهات؛ تفتقر إلى أصول الفهم وقواعد العلم، وتجمع إلى سوء الظن بالعلماء، استباحةَ الطعن في الأولياء، مع أفهام لا تحتملها عبارات الكتاب، ولم يفهمها بهذا الفهم عالم أو فقيه على مر العصور، على كثرة من شرح الكتاب وفسر عباراته!
فتارة يدَّعون أن من الشرك: عبارات الاستمداد من حضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي دعوى فاسدة؛ فإن طلب المدد قد يكون على جهة السببية؛ فيُطلَب من المخلوق، وقد يكون على جهة الخلق والتأثير؛ فلا يجوز حينئذ طلبه إلا من الخالق.
الأسماء النبوية في الدلائل
وتارة ينكرون أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألقابه وأوصافه التي ساقها صاحب "الدلائل"، ويدَّعون أنها لا تليق به صلى الله عليه وآله وسلم.. وهذا جهل واضح؛ فإن هذه الأسماء الشريفة مأخوذة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن السلف، وللعلماء فيها تآليف وتصانيف مفردة، وهذه الدعوى تستلزم أن الأمة كلها نسبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يليق به؛ فإن الأئمة تواردوا على شرح هذه الأسماء في كتاب "الدلائل" عبر القرون وبينوا مآخذها من الكتاب والسنة من غير نكير، وكتب الله تعالى لهذه الأسماء القبول؛ حتى اعتمدها علماء الأمة، ومنهم من نظمها؛ وكتبها المسلمون على جدار قبلة المسجد النبوي الشريف، بنصها وعددها، بأجمل الخطوط وأحلاها وأبدعها؛ يقرأها كل زائر، ويلهج بها كل محب.
وتارة يدَّعون أن في هذه الأسماء الشريفة غلوًّا ومبالغة.. وهذا تجاهل وتغافل عن أن كمالاته صلى الله عليه وآله وسلم لا تتناهى، وأن الخلق كلهم عن بكرتهم مهما وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلن يصلوا إلى عشر معشار قدره ومقامه عند مولاه، لأن الله صلى عليه أزلا وأبدًا، وسخر الكون للصلاة عليه، وأعطاه ثواب كل خير يفعله مخلوق؛ فهو الذي دل الخلق على الخير.
وتارة يزعمون أنه لا تجوز الزيادة على أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في الأحاديث الصحيحة.. وهذا خلط بين باب الاسمية والوصفية؛ فإن الاسم قد يطلق تارةً على العَلَم، وقد يطلق مجازًا على الوصف، وفي هذا الزعم تحريم لأمر فعله علماء المسلمين سلفًا وخلفًا؛ فإن أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلق على أوصافه وشمائله، وهي كما تؤخذ من السنة الصحيحة تستفاد كذلك من القرآن والسيرة وآثار السلف الصالح، وتشتق من أفعاله وكراماته وخصائصه وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
وتارةً ينكرون بعض هذه الأسماء الشريفة المذكورة في "الدلائل"؛ ومنها: محي، ومنج، وناصر، وغوث، وصاحب الفرج.. وإنكارهم غير صحيح؛ إذ كلها أسماء صحيحة متفق عليها بين المسلمين ولا معنى لإنكارها؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإحياءِ القلوب، والنجاةِ من العقاب، والحمايةِ من العذاب، وإغاثةِ الخلق، وتفريجِ كروبهم، كل ذلك بإذن الله تعالى، فهو من إضافة الفعل إلى متسببه مجازًا مع اعتقاد أن الله هو الفاعل الحقيقي، كما قال تعالى على لسان السيد المسيح عيسى عليه السلام: ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران: 49]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، وهذا كثير في كلام العرب؛ كقولهم: أنبت الربيع البقل.
المصطفى سبب الخير لكل الخلق
صلى الله عليه وآله وسلم
ومن الجهل زعمهم أن عبارة (اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار) لا تجوز، بدعوى أن الأزهار فتقها الله وحده.. وهذا مغالطة وشغب؛ فإن إنكار الأسباب مكابرة وجهل، ولا يخفى على أي مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لكل خير في الدنيا والآخرة.
اللهم صل على سيدنا محمد حتى لا تبقى صلاة
وأنكر بعضهم صيغة (اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء).. وهذا جهل بالسنة، ومحاكمة للحب؛ لأن ذلك وارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا عند الطبراني في "الدعاء" والديلمي في "الفردوس"، ومن حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا عند الطبراني في "الدعاء"، ولفظه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: غدَوْنا يومًا غداةً من الغدوات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كنا في مجمع طرق المدينة، فبَصُرْنا بأعرابي آخذٍ بخِطام بعيره، حتى وقف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن حوله، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم السلام، فقال: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟» قال: ورغا البعير، وجاء رجل كأنه حَرَسِيٌّ، فقال الحرسي: يا رسول الله، هذا الأعرابي سرق البعير! فرغا البعير ساعة وحن، فأنصت له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمع رُغَاه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحَرَسي، فقال: «انْصَرِفْ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْبَعِيرَ يَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ كَاذِبٌ»، فانصرف الحرسي، فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأعرابي فقال: «أَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ حِينَ جِئْتَنِي؟» قال: قلتُ بأبي وأمي: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ تَبْقَى صَلاَةٌ، اللَّهُمَّ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ تَبْقَى بَرَكَةٌ، اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ يَبْقَى سَلاَّمٌ، اللَّهُمَّ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا حَتَّى لاَ تَبْقَى رَحْمَةٌ"، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَاهَا لِي وَالْبَعِيرُ يَنْطِقُ بِعُذْرِهِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ قَدْ سَدُّوا الأُفُقَ».
ولفظه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْ صَلاَتِكِ شَيْءٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْ بَرَكَاتِكَ شَيْءٌ، وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنَ السَّلاَمِ شَيْءٌ".
وقد ذكرهما الحافظ أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى" (5/81، ط. دار البشائر)، وساقهما الحافظ السيوطي في رسالته "الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر" مستدلًّا بهما على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالباطن.
معنى هذه الصيغة المباركة
وقد بين معنى هذه الصيغة العظيمة الإمامُ القاضي أبو عبد الله الرصّاع فقال -كما في "المعيار المعرب" (1/350، ط. دار الغرب الإسلامي)-:
[معنى قوله "حتى لا يبقى من صلاتك شيء" صل على محمد جميعَ ما صليتَ وأبرزتَه لأهل عنايتِك وأنبيائِك ورسلك وملائكتك، وجميعَ ما أبرزه سبحانه مِن الرحمة لمَن رحِمَه؛ مِن نبي مرسل أو ملك مقرب، هو قد انتهى وانحصر ودخل في الوجود؛ فكأن المصلي طلب من ربنا سبحانه أن جميع ما رحم الله به عباده وأولياءه وأصفياءه وخاصته، وأحسن به إلى جميع أهل مودته من أهل سمائه وأرضه، لمثله أعط لنبيك وحبيبك ومعدن سرك، فقد كان كذلك، فإن الله سبحانه أنعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يعطه لمجموع أحبته وأهل وده وخاصته، بل أعطاه أكثر وأجمل، وسيعطيه بعدُ ما لا يحيط به عقل، ولا يحويه نقل، فغاية ما في هذا الحديث تخصيص لفظ العموم فيه في الصلاة عليه والبركات، وهذا ليس فيه شيء، والتخصيص إما بالعقل وإما بالنقل والعادة.. وإنما احتجنا إلى هذا التأويل لأن تحسين الظن بالأخيار وأهل المحبة من النقلة واجب، لا سيما والتأويل بابه مفتوح، مع قرب التأويل في ذلك] اهـ.
وهذا هو الفرق بين العالم الذي يحمل الكلام على أحسن محامله، وبين المتحامل الذي يترصد للمز الأولياء، والمتعالم الذي يهوى عيب العلماء.. وهما نتيجتان طبيعيتان لمنهجين متضادين؛ أحدهما: يأمر المتعلم باتهام نفسه حتى يُفتَح عليه من بركات العلم وفيوضات الفهم، والآخر: يسوقه بفهمه السطحي إلى الإنكار على الكبار، من غير احترام ولا إكبار؛ فلا يعود يسلم من سوء ألسنتهم أديم لعالم ولا عرض لولي! ويصير الجهل عندهم حَكَمًا على علم العلماء وفهم الفقهاء!
نزهة دلائل الخيرات
ومن المواسم المباركة في بلاد المغرب العربي: موسمُ "نزهة دلائل الخيرات" في مدينة فاس المغربية وضواحيها، وهي مناسبة ينظمها الفلاحون قبل بداية الحصاد، في تقليد مستمر منذ قرون، يدْعون فيه حُفّاظ الدلائل ويعدون لهم إقامة وطعامًا، ويرتبون لهم قراءة الدلائل وسط الحقول لتطييب الثمار، تيمنًا بقول صاحب "الدلائل" (اللهم صل على من طابت ببركته الثمار)، ويرون من بركة ذلك ما تقر به الأعين وتسر به النفوس وتنشرح به الصدور.
الخلاصة
وفي الختام نقول: إن كتاب "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم" هو من الكتب المباركة التي كتب الله لها القبول في الأمة الإسلامية، وقد شرحه العلماء الكبار على اختلاف الأعصار والأمصار، وقرأه المسلمون عبر القرون، وأجمعت على قبوله الأمة من غير نكير، وهو من أعظم كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بركة وفائدة ونفعًا، وقراءته من أعظم الوسائل الموصلة لصاحب الشمائل، صلى الله عليه وآله وسلم، وإن من مظاهر صلاح حال الأمة وعودة نهضتها: العودة الحميدة لانتشار هذا الكتاب بين شبابها وشيبها ورجالها ونسائها، وشيوع قراءته في المجالس الشريفة، بعد أن حاول المتطرفون إخفاء نوره، وتغطية بدوره، ولكنهم وجدوه شمسًا لا تنطفئ، وسماءً لا تُطاوَل، وقدرًا لا يُحاوَل. ووصفه بالشرك هو منهج الخوارج الذين يكفرون الأمة؛ بفعل ما اتفقت على مشروعيته الأئمة؛ من التوسل بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والاستمداد من جنابه الشريف ونوره المنيف، وما يقال حوله من مزاعم ودعاوى فلا تعدو أن يكون شبهات وترهات تشكك الأمة في سلفها، وتنشر فيها مناهج التكفير والتبديع والتفسيق؛ فلا يجوز الالتفات إليها ولا التعويل عليها.
صورتان متضادتان
وليتأمل كل عاقل ذلك الفرق الكبير بين هذا الكتاب المنير؛ الذي صُوِّرَتْ في أوله الروضة الغرّاء الشريفة، والقبة الخضراء المُنيفة، والذي اعتمده من ربَّوْا النشء الصالح على أن يقولوا شوقًا، عند زيارة خير الخلق خُلُقًا وخَلْقًا:
هذه الخضراءُ تظهر .. نورُهـــا للعقـــل يَبهر
عند رؤيـــاها تحدَّرْ .. دمعُ من يعشق محمد
وبين منهج أهوج، ملأ أذهان أتباعه بأن القبة الخضراء غُصّةٌ في قلب كل مسلم! وبدعة يجب محوها!! والله إن البون لشاسع وإن الفرق لواسع.
إنهما لصورتان متضادتان، وشُّقّتان بعيدتان: بين من أراد أن يودع عند الرحيل، فلم يملك إلا أن يقف خارج المسجد تجاه المواجهة النبوية الشريفة وهو ينظر إلى القبة الخضراء باكيَ العينين ذارفَ المدامع وقد مادت به الأرض من مشاعر الشوق، وبين ذلك المجرم الذي فجر نفسه في ذات المكان؛ لأنه يرى أنها بدعة وكفران.. والله لا يستويان.