أضواء على نشأة الطرق الصوفية بمصر
د. عمر محمد الشريفالتصوف من أشرف العلوم وأعظمها، وهو منهج كامل لتزكية النفس، وتطهيرها، حتى تكون نقية خالصة من كل الشوائب. ولذا قالوا الصوفي هو من صفا قلبه لله تعالى. ولعلم التصوف مرجعيتان هما القرآن الكريم والسنة النبوية. ويرى الصوفيون في رسولنا الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوتهم الحسنة التي أمر الله بالاقتداء بها. قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب: الآية 21.
أقوال العلماء وتعريفاتهم للتصوف تزيد على الألف تعريف، ولعل أجمعها وأكثرها إحاطة ما قاله الشيخ العارف أحمد بن محمد ابن عجيبة الحسني (ت1224هـ) حيث عرفه قائلاً: "التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة".
لقد ظهر التصوف كاسم يطلق على العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري بعد أن انحرف بعض المسلمين عن الدين القويم، وأقبلوا على الدنيا واغتروا بها، وأخذوا يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية. قال الإمام أبو القاسم القشيري (ت465هـ) في الرسالة: "أعلموا أن المسلمين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة، ولما أدرك أهل العصر الثاني، سمي من صحب الصحابة التابعين، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص خواص الناس ممن لهم شدّة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم "التصوف"، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة".
وقال المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ) في مقدمته عن علم التصوف: "علم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة".
نشأة التصوف بمصر:
يعد ذو النون المصري (ت245هـ) أول من بذر التصوف في مصر، وهو أول من تكلم من الصوفية عن المعرفة بكلام دقيق، وكان حكيماً فصيحاً عالماً، وصفه المؤرخون بأوحد وقته علماً وعملاً وحالاً، وهو معدود ممن روى "الموطأ" عن الإمام مالك رضي الله عنه. حلاه الذهبي في سير أعلام النبلاء بـ"شيخ الديار المصرية". وعُرض على الخليفة العباسي المتوكل، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده مكرماً؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا بذي النون.
وقد حفلت كتب التراجم والطبقات بأقوال الصوفية الذين عاشوا في القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية. كان التصوف في مصر تجربة فردية ثم تطور التصوف من تجربته الفردية لصورته الجمعية. فنجد أن خصصت الخوانق للصوفية في العصر الأيوبي، والخوانق مفردها خانقاه أو خانكاه، وهي كلمة معربة عن الفارسية تعني البيت. وأول من اتخذ بيتاً للعبادة هو "زيد بن صوحان بن صبرة"، حيث عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات، فبنى لهم دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره، وكان ذلك في عهد أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
في سنة ٥٦٩هـ خصص الناصر صلاح الدين الأيوبي خانقاه سعيد السعداء بمصر للصوفية الوافدين من البلاد النائية، وبحسب المؤرخ المقريزي كانت تلك أول خانقاه عملت بديار مصر، وعرفت باسم "دويرة" الصوفية، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ، وكانت تعرف بمدرسة سعيد السعداء والخانقاه الصالحية.
تحولت تلك الخانقاه إلى دار إقامة مخصصة لاستقبال الصوفية الوافدين من مختلف البلاد، وتم تجهيزها بكافة المستلزمات المطلوبة للتفرغ للعبادة، وولى عليهم شيخاً، ووقف عليهم كثيراً من الأوقاف بالقاهرة، وقد جاء في شرط الوقفية أن من مات من الصوفية وترك عشرين ديناراً فما دونها كانت للفقراء، ولا يتعرض لها الديوان السلطاني، ومن أراد منهم السفر يعطى تسفيرة، ورتب للصوفية في كل يوم طعاماً ولحماً وخبزاً.
والنص التأسيسي للخانقاه، يقرأ منه: "القوة لله وحده اللهم ارحم الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ورد عنه الذي أنعم على الصوفية العجم بهذه القيصرية التي أوقفها على بقعتهم التي تعرف بدار سعيد السعداء بمحروسة القاهرة وقد أمر بهذا الباب الجديد والفتح السعيد سيد الملوك والعبيد عماد الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين عضد الدولة الطاهرة تاج الملة الزاهرة نظام العالم ملك المعالي العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب ظهير أمير المؤمنين خلد الله ملكه في تاريخ ربيع الأول سنة ٥٧٤هـ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
ظهور الطرق الصوفية بمصر:
نذكر في السطور التالية نبذة عن نشأة أبرز وأقدم الطرق الصوفية بمصر، والطريقة لفظ يطلق على مجموعة أفراد من الصوفية ينتسبون إلى شيخ معين، ويخضعون لنظام دقيق في السلوك الروحي، ويعقدون مجالس العلم والذكر بانتظام.
الطريقة القادرية:
تنسب لإمام الحنابلة في عصره، شيخ الإسلام، السيد محي الدين أبو محمد عبد القادر الجيلاني الحسني، صاحب المشهد المشهور ببغداد، المتوفى سنة ٥٦١هـ، عُرف بـ تاج العارفين، وقطب بغداد، والباز الأشهب.
ولد سنة ٤٧٠هـ بمدينة جيلان وإليها ينسب، ثم انتقل لبغداد سنة ٤٨٨هـ واشتغل بالفقه والحديث وعلوم العربية، ودرس فقه الحنابلة، وسلك طريق الصوفية، والتقى عدداً كبيراً من العلماء والمشايخ، ومن الذين تفقه على أيديهم: الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد البغدادي السراج (ت 500هـ)، الشيخ أبو الخطاب محفوظ الكلوذاني (ت510هـ)، والشيخ أبو الوفا علي بن عقيل (ت513هـ)، والشيخ أبو المخزومي (ت 513هـ)، والقاضي أبو يعلى (ت526هـ).
كما أخذ الحديث عن مجموعة من العلماء منهم: الشيخ ابن الطيوري (ت500هـ)، والشيخ أبو البركات هبة الله بن المبارك بن موسى السقطي (ت 509هـ)، والشيخ أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون (ت510هـ)، والشيخ أبو طالب عبد القادر بن محمد (ت 516هـ)، والشيخ أبو عبد الله يحي بن أبو علي الحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي (ت 531)، والشيخ أبو عثمان اسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت535هـ)، والشيخ أبو بكر أحمد بن المظفر بن سوسن التمار (ت553هـ)، وغيرهم.
وصحب الشيخ حماد الدباس (ت525هـ)، من كبار الصوفية، وأخذ الطريقة منه، وأتمها على يد الشيخ القاضي أبو سعيد المبارك المخزومي المخرمي، الذي أجازه وفوض إليه مدرسته، فتصدر الجيلاني للتدريس بها، وجلس على كرسي الوعظ سنة 521هـ. وحدث عن الجيلاني: السمعاني، والحافظ عبد الغني، والشيخ موفق الدين ابن قدامة.
من مؤلفاته: أوراد الجيلي، الحزب الكبير، الغنية لطالبي طريـق الحـق، فتوح الغيب، الفتح الرباني والفيض الرحماني، إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين، سر الأسرار في التصوف، آداب السلوك والتوصل إلى منازل السلوك، تحفة المتقين وسبيل العارفين، جلاء الخاطر في الباطن والظاهر، حزب الرجاء والانتهاء، دعاء البسملة. الرسالة الغوثية، رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله، معراج لطيف المعاني، يواقيت الحكم، وغيرها من المؤلفات.
استقرت الطريقة القادرية بمصر منذ القرن الثامن الهجري، واتخذ مشايخها من زاوية عدي بن مسافر بالقرافة الصغرى بالقاهرة مقراً لهم، وهي الزاوية التي عرفت فيما بعد بجامع السادة القادرية، وهو جامع عتيق على يمين شارع سكة القادرية، المؤدي إلى قرافة الإمام الشافعي. واستقر به جماعة من ذرية الإمام الجيلاني بحسب ما ذكر الشمس السخاوي في الضوء اللامع، فعملوا على نشر الطريقة القادرية، وكانوا حنابلة المذهب.
منهم محمد بن علي بن حسين بن محمد الأكحل بن شرشيق بن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني الحسني القادري، توفي بالطاعون سنة ٨٤٠هـ، ودفن بجامع القادرية .
وولده موسى بن محمد بن علي بن حسين بن محمد الأكحل بن شرشيق الحسني القادري، مات بالطاعون سنة ٨٤١هـ بعد أبيه بيسير، ودفن بجامع القادرية.
وولده زين العابدين محمد بن موسى بن محمد بن علي بن حسين الحسني القرافي الحنبلي القادري، شيخ الطائفة القادرية، كان خيراً متودداً متواضعاً، حج وزار بيت المقدس وسمع الحديث به وبالقاهرة بقراءة الشمس السخاوي، توفي سنة ٨٨٥هـ، وصلي عليه بمصلى المؤمني في محفل شهده أمير المؤمنين لصداقة كانت بينهما، ودفن عند أبيه وجده بجامع القادرية.
وأخوه شمس الدين محمد بن موسى بن محمد بن علي بن حسين الحسني القادري، استقر بعد أخيه في مشيخة القادرية بالاشتراك مع أحد أبناء عمومته، وبعناية صهره تغرى بردى الأستادار. سمع وحضر عند الشمس السخاوي، توفي سنة ٨٨٨هـ، وصلي عليه في مشهد حافل.
وولده عبد العزيز بن شمس الدين محمد بن موسى بن محمد بن علي الشريف القادري، سمع على الشمس السخاوي، ومات بالطاعون في سنة ٨٩٧هـ، وهو أخو زوج تغري بردى الأستادار.
ومنهم حسن بن محمد بن عبد القادر بن علي بن محمد الأكحل بن شرشيق بن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني الحسني القاهري، كان أسن القادرية المقيمين بجامع القادرية بالقاهرة كما وصف السخاوي، كان صالحا نيراً سليم الفطرة منجمعاً عن الناس، قليل الخبرة بمخالطتهم، توفي سنة ٨٦٧هـ، ودفن بجامع القادرية، تزوج الشيخ إِبراهيم القادري ابنته.
وأخوه علي بن محمد بن عبد القادر بن علي بن محمد الأكحل بن شرشيق بن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني الحسني القاهري الحنبلي، شيخ القادرية لبس الخرقة القادرية من آبائه وألبسها جماعة منهم أبو إسحق إبراهيم القادري وقال أنه كان عين القادرية بالديار المصرية، حسن الخلق ذا هيبة ووقار وسكينة وحلم. توفي سنة ٨٥٣ هـ ودفن بجامع القادرية.
وولده عبد القادر بن علي بن محمد بن عبد القادر بن علي بن محمد الأكحل بن شرشيق بن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني القاهري الحنبلي القادري. ولد سنة ٨٥٠هـ، ومات أبوه وهو في الثالثة من عمره، فكفلته أمه، أخذ عن الزين قاسم الحنفي وهو زوجه أمه، ثم لازم الشمس السخاوي قليلًا، وعمل كراسة فيها تخريج فتوح الغيث لجده الإمام عبد القادر، وحج مرتين، توفي بعد عودته من الحجة الثانية مريضاً، وذلك في حياة أمه، وكان بارا بهَا، كانت وفاته سنة ٨٧٩هـ، فصلى عليه في مشهد حافل، ودفن بجامع القادرية.
الطريقة الرفاعية:
تنسب لشيخ العارفين الإمام الزاهد القدوة السيد أبو العباس أحمد بن علي الرفاعي الحسيني (ت578هـ)، ويعرف بـ"شيخ الطائفة البطائحية"، وذلك لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح بالعراق، بين البصرة وواسط. كان شيخاً صالحاً فقهياً شافعي المذهب، أفردت مناقبه وكراماته بالتأليف، وأثنى عليه الكثير من العلماء. قال عنه الحافظ الذهبي:" وكان لا يقوم للرؤساء، ويقول: النظر إلى وجوههم يقسي القلب. وكان كثير الاستغفار، عالي المقدار، رقيق القلب، غزير الإخلاص".
وأثنى على الإمام الرفاعي أئمة المسلمين وعلماؤهم، نذكر منهم: عمدة المؤرخين ابن الأثير الجزري (ت630هـ) في "الكامل في التاريخ"، وسبط ابن الجوزي (ت654هـ) في "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، وابن خلكان (ت681هـ) في "وفيات الأعيان"، والشطنوفي (713هـ) في "بهجة الأسرار"، وابن الفوطي الشيباني (723هـ) في "مجمع الآداب في معجم الألقاب"، وابن أبي الفداء (ت732هـ) في "المختصر في تاريخ البشر، والحافظ الذهبي (ت748هـ) في "سير أعلام النبلاء" و "تاريخ الإسلام" وغيرها من مؤلفاته، وابن فضل الله العمري (ت749هـ) في "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، والصفدي (ت 764هـ) في "الوافي بالوفيات"، وابن أسعد اليافعي (ت768هـ) في "روض الرياحين" وغيرها من مؤلفاته، وتاج الدين السبكي (ت 771هـ) في "طبقات الشافعية الكبرى"، والإسنوي (ت772هـ) في "طبقات الشافعية"، وابن كثير (ت 774هـ) في "طبقات الشافعية"، وابن الملقن (ت804هـ) في "طبقات الأولياء"، وابن تغري بردي (ت874هـ) في "النجوم الزاهرة"، وابن مغيزيل الشاذلي (ت894هـ) في "الكواكب الزاهرة" وغيرهم كثير.
دخلت الطريقة الرفاعية مصر عن طريقة تلميذه الشيخ أبو الفتح الواسطي، الذي استقر بالإسكندرية بإشارة من شيخه الإمام الرفاعي، وتوفي بها، وضريحه معروف يزار بمنطقة اللبان. والواسطي حلاه الإمام الشعراني في الطبقات بـ"شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر". وذكر أن أخذ عنه خلائق لا يحصون منهم: الشيخ عبد السلام القليبي، الشيخ عبد الله البلتاجي، والشيخ بهرام الدميري، والشيخ جامع الفضلين الدنوشري، والشيخ علي المليجي، والشيخ جمال الدين البخاري، والشيخ عبد العزيز الديريني وأضرابهم.
والقليبي هو الشيخ الإمام الزاهد تقي الدين أبو محمد عبد السلام بن سلطان الماجري، المتوفى سنة 658هـ، صاحب المسجد والضريح المعروف بقرية قليب إبيار إحدى قرى كفر الزيات بمحافظة الغربية، قدم من المغرب إلى القاهرة، واستقر بها مدة، ثم انتقل إلى قليب إبيار، وكان فقيهاً عالماً عارفاً بالله.
أما الديريني فهو الشيخ الزاهد القدوة عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري الديريني، صاحب المسجد المعروف بقرية درين، إحدى قرى مركز نبروة بمحافظة الدقهلية، له العديد المصنفات في التفسير، والفقه واللغة، والتصوف، وله نظم كثير.
وظلت الغربية معقلًا من معاقل الطريقة الرفاعية بمصر، فنجد بقرية النحارية بالغربية آل البديوي، وبسمنود آل الفنائي، تنتهي خرقتهم الرفاعية إلى الشيخ أبي الفتح الواسطي خليفة الإمام الرفاعي. ومن آل البديوي: برهان الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن علي بن أحمد العدوي النحريري الشافعي الرفاعي ويعرف بابن البديوي. ولد بعد سنة 780هـ بالنحارية بالغربية، وقرأ بها القرآن، وحفظ العمدة والتبريزي وألفية ابن مالك، وعرضهم على السراجين البلقيني وابن الملقن، وسمع كتاب الشفا على قاضي النحارية البرهان إبراهيم بن أحمد بن البزاز الأنصاري الشافعي، حج سنة 825هـ، وتردد إِلى القاهرة والإسكندرية مرارًا، كما ارتحل إلى دمياط لزيارة الصالحين، وعني بنظم الشعر، ومات بالنحارية سنة 861هـ.
أما بيت النفائي السمنودي، فمنهم: عيسى بن محمد بن عيسى بن عمر بن ياسين بن صالح النفائي السمنودي الرفاعي الشافعي، ولد بسمنود وقرأ بها القرآن، ورحل إلى القاهرة واشتغل بها على العز بن جماعة وغيره، لقيه البقاعي سنة 838هـ بسمنود ووصفه بالوقار والعقل والفضل وسعة الدائرة وأنه هو وأهل بيته مشايخ معروفون في بلاد الغربية وأعمال القاهرة، معتقدون مشار إليهم مذكورين بالكرامات والأحوال.
الطريقة السهروردية:
تنسب للشيخ أبي النجيب ضياء الدين عبد القاهر السهروردي، ثم لابن أخيه شهاب الدين أبو حفص عُمر السهروردي البغدادي الشافعي. وينتهي نسبهم إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أبو نجيب السهروردي، ولد بسهرود سنة 490هـ، وتوفي ببغداد سنة 563هـ، كان من أكابر مشايخ العراق، وصدور العارفين، وأعيان المحققين، وأعلام العلماء، درس بالمدرس النظامية ببغداد، و تصدر للفتوى بها، ووضع الكتب المفيدة في علمي الشريعة والحقيقة، وقصده طلبة العلم ببغداد.
قال عنه ابن عساكر: الفقيه الصوفي الواعظ، قدم بغداد وهو شاب وسمع بها الحديث، وتفقه، واشتغل بالزهد والمجاهدة مدة حتى أنه كان يستقي الماء ببغداد، ويأكل من كسبه، ثم اشتغل بالتذكير وحصل له فيه قبول، وبني له ببغداد رباطات للصوفية من أصحابه، وولى المدرسة النظامية ببغداد، وأملى ببغداد الحديث، وقدم دمشق سنة 558هـ عازماً على زيارة بيت المقدس فلم يتفق له ذلك لانفساخ الهدنة بين المسلمين والعدو، فأكرمه الملك العادل نور الدين واحترمه، وأقام بدمشق مدة يسيرة، وعقد بها المجلس، وحدث وعاد إلى بغداد.
أما ابن أخيه فهو الإمام العالم، شيخُ الإسلام، شهاب الدين أبو حفص عُمر السهروردي البغدادي الشافعي، ولد سنة 539هـ بسُهرورد، وتوفي ببغداد سنة 632هـ. نشأ في حجر عمه أبي النجيب، وعنه أخذ التصوف والوعظ، قدم من سهرورد إلى بغداد، وهو شاب وصحب الشيخ محمد عبد القادر الجيلاني، ورأى جملة من الشيوخ، وحدث ببغداد ومكة ودمشق.
قال عنه ابن النجار: وكان شهاب الدين شيخ وقته في علم الحقيقة وانتهت إليه الرئاسة في تربية المريدين، ودعاء الخلق إلى الله. سلك طريق الرياضات والمجاهدات، وقرأ الفقه والعربية، ثم لازم الخلوة والذكر والصوم، فعقد مجلس الوعظ بمدرسة عمه، ويحضر له خلق كثير، وظهر له القبول من الخاص والعام واشتهر اسمه، وقصد من الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه على خلق من العصاة فتابوا.
وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق في وقته، صاحب مجاهدة وإيثار وطريق حميدة ومروءة تامة، وأوراد على كبر سنه. وحلاه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء بـ" الشيخ الإمام العالم القدوة الزاهد العارف المحدث شيخ الإسلام أوحد الصوفية". من مؤلفاته: عوارف المعارف، ونغبة البيان في تفسير القرآن، وجذب القلوب إلى مواصلة المحبوب، والسير والطير.
وقد انتشرت الطريقة السهروردية في مصر بصورة كبيرة، نجد أن من أشهر تلاميذ شهاب الدين السهروردي بمصر: الشيخ أبو عبدالله محمد بن سراقة الشاطبي الأنصاري المالكي (ت662هـ)، ولـد بشـاطبـة سنـة ٥٩٢هـ، ورحل في طلب الحديث، فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي، وتولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب، ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل القصري سنة ٦٤٢هـ، وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة ٦٦٢هـ، ودفن بسفح المقطم. قال أبو العباس المقري: هو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضـل وكثرة العلم والجلالة والنبل، وأحد المشايخ الصوفية، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر، وكان صالح الفكرة في حل التراجم، مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق، واطراح التكلف، ورقة الطبع، ولين الجانب.
ومن مشايخ مصر الذين لبسوا خرقة الطريقة السهروردية من الشيخ شهاب الدين السهروردي، سلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين وأوحد الأئمة الأعلام إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، الإمام العز بن عبد السلام (ت660هـ)، لبس منه خرقة التصوف وأخذ عنه. ويذكر أنه أخذ الطريقة الشاذلية أيضاً عن أبي العباس المرسي، وسيأتي ذكرها.
ومنهم قطب الدين بن القسطلاني (ت 686هـ)، الفقيه المحدث الأديب الصوفي العابد، ولد في سنة 614هـ، وسمع من والده، ومن الشيخ شهاب الدين السهروردي، ولبس منه خرقة التصوف، وسمع الكثير بمصر ودمشق وببغداد، ولي مشيخة دار الحدِيث الكاملية بالقاهرة.
ومنهم محيي الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن عبدالمنعم الدميري اللخمي المصري(ت695هـ)، الشيخ الإمام المسند، ولد سنة 603هـ، ولبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان من كبار المسندين، سمع من الحافظ أبي الحسن علي بن المفضل، ومن أبي طالب أحمد بن حديد، وابن أبي الفخر البصري، والزين بن فتح الدين الدمياطي، وإسماعيل بن ظافر العقيلي، وتفرد بالرواية عنهم.
ومنهم أحمد بن إسحاق بن محمد بن علي الأبرقوهي المصري (ت701هـ)، كان والده قاضي أبرقوه من عمل شيراز، فولد بها سنة 615هـ، حدث وقدم الديار المصرية فقطن القرافة. عُرف بين الصوفية بالسهروردي لأنه لبس عنه الخرقة. كان محدثاً فاضلاً، خيراً متواضعاً له كرامات، وكان له بالقاهرة اتباع ومريدون.
الطريقة الشاذلية:
تنسب للإمام الزاهد حجة الصوفية تقي الدين أبي الحسن علي الشاذلي الإدريسي الحسني، المتوفى سنة 656هـ، صاحب المسجد والضريح المعروف بحميثراء من صحراء عيذاب بمصر. ولد الشاذلي بغمارة بالمغرب سنة 593هـ، وقيل سنة 571هـ، ثم رحل إلى فاس فقرأ على كبار علمائها، وأخذ عن الشيخ الصوفي الكبير ابن حرازم، وانتقل للعراق فاجتمع بأبي الفتح الواسطي تلميذ الإمام الرفاعي، ثم رجع للمغرب واجتمع بالسيد عبد السلام بن مشيش الإدريسي الحسني، ثم انصرف متوجهاً للديار الشرقية فمر بطريقه على تونس وأقام مدة بـ"شاذلة" ولهذا عرف بالشاذلي. ثم رحل إلى مصر وسكن الإسكندرية.
أخذ عن الشاذلي أكابر أئمة الإسلام أبرزهم العارف الكبير الزاهد شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن محمد المعروف بأبو الْعباس المرسي، صاحب المسجد المعروف بالإسكندرية، والمتوفى بها سنة 686هـ. ولد المرسي بمدينة مرسية بالأندلس سنة 616هـ، ثم انتقل للإسكندرية، ولأهلها فيه ثقة واعتقاد، قضى بها 43 سنة، وكان مثلاً أعلى للتقوى والورع والزهد، وصحبه نجم الدين عبد الله بن محمد الأصفهاني المتوفى سنة 721هـ. كما تلقى عنه ثلة من كبار الصالحين منهم الأئمة: ابن عطاء الله السكندري، والشرف البوصيري، وياقوت العرش.
ابن عطاء الله هو أحمد بن محمد بن عبد الكرِيم بن عَطاء الله الشيخ العارف تاج الدين أبو الْفضل الإسكندري، المتوفى بالقاهرة سنة 709هـ، والمدفون بسفح جبل المقطم بزاويته. قال الصفدي: كان رجلاً صالحا يتكلم على كرسي فِي الجامع بكلام حسن، وله ذوق ومعرِفة بكلام الصوفية وآثار السلف، وله عبارة عذبة لها وقع في القلوب وكانت له مشاركة في الفضائل.
من مؤلفاته: الحكم العطائية، التنوير في إسقاط التدبير، تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن، عنوان التوفيق في آداب الطريق، القول المجرد في الاسم المفرد، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح.
أما الشرف البوصيري صاحب البردة فهو شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، الدلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ. ولد بناحية دلاص سنة 608هـ، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: هو أحسن شعرًا من الجزار والوراق. مات سنة 695هـ.
ومن مشايخ الشاذلية بمصر: الشيخ عبد الله بن أبي بكر بن عرام الأسواني الأصل الإسكندراني الدار والوفاة، وأمه بنت الشيخ الشاذلي، ولد بدمنهور سنة 654هـ، واشتغل بالنحو والتصوف وسمع الحديث، وصحب أَبا العباس المرسي، وكان يذكر عنه كرامةٌ وصلاح، توفي سنة 721هـ بالإسكندرية.
وأخيه أحمد بن أبي بكر بن عرام الأسواني الأَصل الإسكندراني الشافعي، ولد سنة 664هـ، وأخذ عن الشيخ شمس الدين الأصبهاني، والعلم العراقي، ومحيي الدين حافي رأسه، وبهاء الدين ابن النحاس. وقرأ على الدلاصي وسمع على جماعة منهم محمد بن طرخان، وصحب أبا العباس المرسي، وولي نظر الأحباس بالإسكندرية، وعلق على المنهاج، مات بالقاهرة سنة 720هـ، وهو والد الشيخ تقِي الدين محمد بن عرام.
ومنهم الشيخ العارف الشهير شرف الدين أبو سليمان داود بن ماخلا المالكي السكندري، المتوفى سنة 735هـ. كان من العلماء الراسخين، وله مؤلفات منها: عيون الحقائق، واللطيفة المرضية بشرح دعاء الشاذلية، وله شرح على حزب البر، وآخر على حزب البحر للإمام الشاذلي.
والسيد محمد وفا المالكي الحسني التونسي أصلاً، ولد سنة 702هـ بالإسكندرية، وسلك الطريق الشاذلي على يد الشيخ داود بن ماخلا، ثم انتقل إلى أخميم فأنشأ بها زاوية كبيرة. من مؤلفاته: العروش الإنسانية، وشعائر العرفان في ألواح الكتمان. توفي سنة 765هـ ودفن بسفح جبل المقطم، وهو الجد الأعلى للسادات الوفائية الذين حملوا راية الشاذلية.
ومركز الطريقة الشاذلية الأول هو مصر وبخاصة مدن الإسكندرية، وطنطا، ودسوق، ثم انتشرت في باقي البلاد الإسلامية، وأهم مناطق نشاطها المغرب العربي، وسوريا، والأردن، وفلسطين، ولبنان، وحضرموت، والسودان وغيرها من البلاد.
الطريقة البدوية:
تنسب للإمام القطب السيد أحمد البدوي، صاحب المسجد المعروف بطنطا، المتوفى سنة 675هـ. تعرض السيد أحمد البدوي في عصرنا لكثير من الافتراءات، وقد ترجم له العديد من العلماء والمؤرخين وكتاب السير، وأثنوا عليه، وشهدوا له بالصلاح، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
العلامة سراج الدين ابن الملقن (ت ٨٠٤ هـ) في "طبقات الأولياء" حيث قال: "الشيخ أحمد البدوي، المعروف بالسطوحي، أصله من بني برِي، قبيلة من عرب الشام، تسلك بالشيخ بري، أحد تلامذة الشيخ أبي نعيم أحد مشايخ العراق، وأحد أصحاب سيدي أحمد بن الرفاعي".
وذكره شمس الدين محمد بن ناصر الأنصاري المعروف بابن الزيات (ت814هـ)، في "الكواكب السيّارة في ترتيب الزيارة" وقال: "سيدي أبي العباس أحمد البدوي".
وذكره المؤرخ ابن تغري بردي (ت٨٧٤هـ) في عدة مواضع من كتابه "النجوم الزاهرة" فقال: "الشيخ المعتقد الصالح أبو الفتيان أحمد بن علي بن إبراهيم بن أبي بكر البدوي المعروف بأبي اللثامين السطوحي، مولده سنة ٥٩٦ هـ وتوفي في سنة ٦٧٥ هـ، ودفن بطندتا، قبره يقصد للزيارة هناك، وكان من الأولياء المشهورين، وكانت له كرامات ومناقب جمة رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته".
كما ذكره الحافظ شمس الدين السخاوي (ت ٩٠٢هـ ) في عدة مواضع من كتابه "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" حيث ترجم للعديد من خلفاء المقام الأحمدي، وذكره "بسيدي أحمد البدوي".
وقال عنه الحافظ جلال الدين السيوطي (ت٩١١هـ) في "حسن المحاضرة":"سيدي أحمد البدوي، هو أبو الفتيان أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر… وعرف بالبدوي لملازمته اللثام، ولبس لثامين لا يفارقهما، وعرض على التزويج فأبى، لإقباله على العبادة، وكان حفظ القرآن، وقرأ شيئًا من الفقه على مذهب الشافعي …. ولازم الصيام، وأدمن عليه حتى كان يطوي أربعين يوما لا يتناول طعامًا ولا شرابًا …".
وعبدالباسط الملطي (ت920هـ) في "نيل الأمل في ذيل الدول"، قال:"سيدي أحمد البدوي".
وقال المؤرخ ابن إياس (ت٩٢٨ هـ) في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" في أحداث سنة ٩٠١ هـ:"جدد مقام سيدي أحمد البدوي وبناه بناءً حافلًا ووسعه".
وترجمه الإمام عبد الوهاب الشعراني (ت973) في "الطبقات الكبرى"، وحلاه بـ "السيد الحسيب النسيب أبو العباس سيدي أحمد البدوي الشريف رضي الله تعالى عنه وشهرته في جميع أقطار الأرض تغني عن تعريفه ...".
وقال عنه شهاب الدين الرملي شيخ الشافعية (ت ١٠٠٤ هـ) في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج": "سيدي أحمد البدوي نفعنا الله به".
والقاضي عبد الحليم بن محمد الرومي الحنفي (ت١٠١٣ هـ) في "رياض السادات في إثبات الكرامات":"سيدي أحمد البدوي قدس الله سره العزيز ونور ضريحه الشريف ونفعنا به".
والعلامة محيي الدين عبد القادر العيدروس (ت١٠٣٨ هـ) في كتابه "النور السافر عن أخبار القرن العاشر" قال: "القطب الشريف سيدي أحمد البدوي نفع الله به".
وألف الشيخ نور الدين علي بن برهان الدين إبراهيم الحلبي ( ت ١٠٤٤ هـ) كتاباً في سيرة السيد أحمد البدوي، وهو الكتاب المسمى "النصيحة العلوية في بيان حسن الطريقة الأحمدية".
وذكره محمد بن محمد بن أبي السرور البكري (ت١٠٨٧هـ) في كتابه "النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية": "العارف بالله تعالى سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه".
وقال عنه ابن العماد الحنبلي (ت١٠٨٩هـ) في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" في أحداث سنة ٦٧٥هـ:"وفيها السيد الجليل الشيخ أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد ابن أبي بكر البدوي الشريف الحسيب النسيب".
والرحالة أوليا جلبي (ت1095هـ) في "الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة"، قال:"وقمنا بزيارة ضريح المشهور في الآفاق والقطب على الإطلاق حضرة أبو اليتامى السلطان السيد أحمد البدوي".
وشمس الدين ابن الغزي (ت1167هـ) في "ديوان الإسلام"، قال: "سيدنا أحمد البدوي".
وغير هؤلاء كثير ممن لا يسعنا ذكرهم هنا، أجمعوا كلهم على صلاحه وفضله.
بعد وفاة السيد أحمد البدوي شيد خليفته الشيخ عبدالعال أركان الطريقة البدوية، والتي تعرف أيضاً بالأحمدية والسطوحية، وحمل رايتها حتى وفاته سنة 732هـ في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة، ليدفن بجوار شيخه البدوي بالمسجد الأحمدي بطنطا، أرخ لوفاته المؤرخ المقريزي (ت845هـ) قائلاً: "وتُوفي الشيخ عبد العال خليفة أحمد البدوي بطنطا في ذي الحجة وَله شهرة بالصلاح ويقصد للزيارة والتبرك به".
وقال المؤرخ ابن تغري بردي (ت874هـ) في أحداث تلك السنة:
"وتوفي الشيخ الصالح عبدالعال، خليفة السيد أحمد البدوي وخادمه بقرية طنتتا بالغربية من أعمال القاهرة في ذي الحجة. فكان له شهرة بالصلاح ويقصد للزيارة والتبرك به؛ ودفن بالقرب من الشيخ البدوي، الجميع في موضع واحد، غير أن كل مدفن في محل واحد على حدته. وخلفاء مقام الشيخ أحمد البدوي من ذرية أخيه، ولم يبلغنا من كراماته شيء".
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي (ت911هـ): "عبد العال خليفة سيدي أحمد البدوي. كان له شهرة بالصلاح، يُقصد للزيارة والتبرك. مات بطندتا في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة".
تولى خلافة المقام الأحمدي بعده أخيه زين العابدين في الفترة من 732هـ وحتى 754هـ، وقد أختلط على البعض اسمه فجعلوه "زين الدين عبد الرحمن"، والصحيح أن عبد الرحمن هو الخليفة الرابع، حيث ترجم له ابن حجر العسقلاني وشمس الدين السخاوي، وسيأتي ذكره.
ثم تولاها أخيه نور الدين علي في الفترة من 754هـ وحتى 789هـ. وبحسب نورالدين علي بن إبراهيم الحلبي(ت1044هـ) في "النصيحة العلوية"، فهو أول خليفة يوقف وقفاً على الرباط الأحمدي، حيث أوقف قرية النخلة البحرية التابعة لمركز أبو حمص بمحافظة البحيرة على مصالح المقام الأحمدي، ولم نستدل على أصل هذا الوقف أو على أي وثيقة تخصه.
ثم تولاها أخيه عبد الرحمن في الفترة من 789هـ وحتى 803هـ، وعبد الرحمن هذا كان ذاع الصيت ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في "إنباء الغمر": "عبد الرحمن الطنتدائي المعروف بالخليفة شيخ الطائفة السطوحية، كان ينزل المدرسة الفارسية من القاهرة، ويعمل بها بعد صلاة الجمعة عنده سماع فيحضر الخلائق، وكان متودداً قل أن ترد شفاعته، مات في جمادى الآخرة".
وضريحه بالمسجد الأحمدي، وعبد الرحمن هو أخر أخوة الشيخ عبدالعال الذي تولوا الخلافة لتنتقل بعد ذلك لذرية أخيهم الأكبر عبد المجيد، ويبدو أن عبد المجيد لم يكن له حظ في الخلافة، وإنما كان له حظ في خدمة شيخه البدوي في حياته، وتوفى في حياة البدوي حسب الإمام عبد الوهاب الشعراني، وصاحب "الجواهر السنية"، وكان عبد المجيد يتردد مع أخيه عبدالعال على السيد البدوي وتأدب بآدابه، وكان لا ينام تعباً له، واستمر على صلته بشيخه حتى وفاته، ودفن ببلدته فيشا سليم (فيشا المنارة) وله مسجد بها لا يزال قائماً إلى اليوم.
وقد صرح العلماء من أهل القرن التاسع الهجري بانحصار الخلافة على المقام الأحمدي في ذرية أخوة عبدالعال، ومنهم السخاوي في الضوء اللامع، وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة، وغيرهم، والمقصود انحصارها في ذرية أخيه عبد المجيد حتى النصف الثاني من القرن التاسع الهجري.
الدسوقية:
تنسب للعارف بالله سيدي برهان الدين إبراهيم الدسوقي القرشي الحسيني، وهو شيخ الطائفة البرهامية، وصاحب المحاضرات القدسية، والعلوم اللّدُنية والأسرار العرفانية. تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، واقتفى آثار السادة الصوفية، عُرفت طريقته بالبرهانية والإبراهيمية والدسوقية، فالبرهانية نسبة إلى برهان الدين، والإبراهيمية نسبة إلى اسمه إبراهيم، والدسوقية نسبة إلى الشهرة المكانية وهي مدينة دسوق.
اتفق المؤرخون أنه عاش ٤٣ عاماً، واختلفوا في سنة وفاته، فذهب البعض انه توفي سنة ٦٧٦هـ، ومنهم الإمام الشعراني، والإمام الوتري، والمناوي، وعبد القادر الطبري، وابن العماد الحنبلي ومرتضى الزبيدي، بينما ذهب البعض الأخر أن وفاته كانت سنة ٦٩٦هـ، ومنهم جلال الدين الكركي شيخ مسجد الدسوقي بدسوق في القرن العاشر الهجري، والمفتي زين الدين أبي المعالي حسن شمة الفوي، ومحمد أمين بن حبيب المدني.
ويبدو أن التاريخ الأخير هو الأرجح لأن الجلال الكركي هو أعلمهم بالبيت الدسوقي وأخباره، ووصف اللحظات الأخيرة في حياة الشيخ الدسوقي، كما ذكر أنه أرسل نقيبه لأخيه العارف شرف الدين موسى أبو العمران بالقاهرة، والذي كان مقيماً بها يربي السالكين في حياة أخيه.
بعد وفاة الشيخ الدسوقي تولى أمر الطريقة شقيقه الشيخ شرف الدين موسى أبو العمران، والذي كان أصغر سناً من شقيقه الدسوقي، وعاش متنقلاً بين دسوق والإسكندرية مجتهداً في نشر العلم، وتربية المريدين حتى أدركته الوفاة بالإسكندرية سنة ٧٢٩هـ، وقيل سنة ٧٣٩هـ بحسب الجلال الكركي والذي قال: "وكانت وفاة الشيخ موسى بالثغر السكندري سنة سبعمائة وتسـع وثلاثين (۷۳۹هـ) بعد عشرة السبعين، وحُمل إلى دسوق ودُفن بقرب شقيقه سیدي إبراهيم من الجبهة القبلية".
ويروى أن من كبار خلفاء الدسوقي المعاصرين للسيد موسى أبي العمران، السيد الشريف العارف الزاهد الشهير سليمان البسيوني بن عثمان بن علوان بن يعقوب الإدريسي الحسنى، صاحب المسجد المعروف بمدينة بسيون بمحافظة الغربية، المتوفى سنة ٧٣٥ هـ، وقد بُني مسجده هذا محل الخلوة التي كانت يتعبد فيها.
بعد وفاة السيد موسى أبي العمران تولى أمر الطريقة الدسوقية ابنه السيد شمس الدين محمد بن أبي العمران موسى، ويسمى أيضاً بدر الدين محمد. ثم استخلف من بعده ولده لصلبه الورع الزاهد الشيخ جمال الدين عبد الله المتوفى عام نيف وثمانمائة. وله قصة مشهورة مع السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق (ت٨٠١هـ) ذكرها الجلال الكركي. ثم استخلف من بعده ابن عمه العارف أبو عبد الله شمس الدين محمد بن العارف ناصر الدين محمد بن أيوب بن أبي المجد، وكانت وفاته سنة ٨٣٤هـ.
ثم تولاها علي بن محمد بن علي بن ذي الاسمين أيوب عثمان بن ذي الاسمين عبد العزيز عبد المجيد الشهير بأبي المجد بن محمد ابن عبد العزيز ابن قريش، المُترجم له في "الضوء اللامع" للشمس السخاوي. وأيوب في نسبه، هو أخو الشيخ إبراهيم الدسوقي. ولد سنة ٧٧٥ هـ بأبي درة من أعمال البحيرة، وأخذ الطريقة الدسوقية عن ابن عمه الجمال عبد الله بن محمد بن موسى المتوفى بدسوق في سنة نيف وثمانمائة، وقصد المترجم له دسوق من سنة ۸۱۲ هـ إلى أن مات شيخ المقام الإبراهيمي بها، وهو ابن عمه الشمس محمد بن ناصر الدين محمد بن أيوب سنة ٨٣٤هـ، فاستقر عوضه في المشيخة، فباشرها حتى توفى ليلة الجمعة ١١ رمضان سنة ٨٥٩هـ بدسوق، ودُفن عند الضريح البرهاني.
خاتمة:
وهكذا استمرت الطرق في الظهور والانتشار خلال القرون التالية، ففي القرن الثامن الهجري ظهرت الطريقة النقشبندية التي تنسب للشيخ بهاء الدين نقشبند البخاري (ت791هـ)، والطريقة الخلوتية والتي نشرها في مصر العارف الشهير الشيخ مصطفي كمال الدين البكري (ت1162هـ) ويعود سندها لأبي نجيب السهروردي مؤسس السهروردية، وغيرها من الطرق.
لقد تأسست الطرق لتكون مدارس تربية روحية حقيقية، غايتها التطهير النفسي والتقويم السلوكي للمريد، وتعمير الأوقات بالنوافل والقربات، والتحرر من نزوات المادة وشهواتها الفانية والتي هي سبب كل الخطايا والمهلكات. والطريق عهد بين المريد والشيخ على أن لا يرتكب صغيرة أو كبيرة وأن يكون طاهر الجسد والروح معاً. فالتصوف عبادات خالصة، وأخلاق كريمة، ومجاهدات، وسلوك تطبيقي يهدي إلى مقام الإحسان الذي فصله النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث الشريف بقوله:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فهذا هو التصوف الحقيقي المؤسس على الكتاب والسنة، وهؤلاء هم مشايخه أئمة الإسلام.