السنة الرابعة رمضان 1445 هـ - إبريل 2024 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
دين الحب
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسوله الله وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين

وبعد ...

لعلَّ من أشهر ما جرى على ألسنة الناس من شعر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، قوله: أدينُ بدينِ الحُبِّ أنَّى توجهت ركائبه، فالحُبُّ ديني وإيماني.

وقد وردت فيما اطلعت عليه من النسخ المخطوطة "فالدينُ ديني وإيماني"، ولا أقصد في هذا المقال الكلام عن معنى البيت أو الأبيات المشهورة من هذه القصيدة، ولكنَّ ما دفعني للكلام ههنا، أني وجدت بعض من استنكر وصفه رضي الله عنه الإسلام بدين الحب، وتكلَّم ذلك المُنكِرُ بكلامٍ يرى فيه أن ذلك الوصف لا يليق بدين الله، وأنه يعلم أن أمر الحب مشهور عند الصوفية، وأنه من انعدام الغيرة على الشرع الشريف، أو تكلم بما هذا معناه. فشعرتُ أنه لم ينتبه إلى أن الأكابر من أهل الله مِن أمثال ابن العربي لا ينطقون كلمةً إلا وهي من فيض القرآن الكريم، وما من عملٍ أو قولٍ اشتهر عنهم إلا وهو مؤيَّدٌ بالكتاب والسنة، وتعجبت من انفعال ذلك الشخص وكأنه لم ير إلى قول الله تعالى للكافرين: (( فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه ))، بل لم ينظر إلى ما خاطب به الحق تعالى حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال له: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ))، فعلِمنَا أن دعوى المؤمن محبته لله تعالى، وأن غايته حصول محبة الله له، وتساءلتُ: ما الذي نَصِفُ به دينًا مقصدنا فيه الحب، وغايتنا؛ كما ورد في الخطاب الإلهي لنا ترغيبًا وترهيبًا. فوددت لو أقدرني الله تعالى على رفع ما التبس بالحب في ذهن مثل هذا المنكر مما لا يكون إلا عن الاستغراق في المحسوس الدنيوي من أمر الحب، والاحتجاب بالخبرات الجسمانية لا غير.

والحق أن هذا المقال لا يتسع للكلام عن الحب وأقسامه ومراتبه، ولذا سوف أقف عند مبدأ قول الحق تعالى في الحديث القدسي: (( كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببتُ أن أُعْرَف، فخلقتُ الخلق، فبي عرفوني )) أو ما جاء في روايات هذا الحديث مما يدور لفظه في فلك هذا المعنى. ولا زال الحق تعالى في كنزيته من حيث ذاته المنهي عن الخوض فيها شرعًا، فما ظهر من جواهر الكنز المشار إليه في الحديث غير الصفات والأسماء والأفعال، وبها تعرَّف إلينا، فهي لنا عليه دوال، وأول ما يُدرك من صفات الحق تعالى الدالة على كمال ذاته، صفتان: الجمال والجلال، ولا تطيق العقول والأرواح إلا تجلياتهما، وقد قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: وما الأمرُ إلا ذاتٌ وتجلياتٌ. فكان البسط تجلي صفة جماله الذاتي، والقبض تجلي صفة جلاله جلَّ وعلا، ثم سرى ذلك التجلي في جميع الأكوان، وبرزت الصفات منهما، وانطبعت الآثار في الخلائق، وظهرت آثار الأحكام فيها، فعن البسط ظهرت فينا الشهوة، وعن القبض ظهر الغضب، وهما من طبائع النفوس، وكذلك الرجاء والخوف من أحوالها، وظهر في العالم الموت من القبض، والحياة من البسط.

والحق أن كل ذلك من دواعي الحب، فالرجاء تمني رضى المحبوب، والخوف عبارة عن خشية سخطه بالمخالفة، والشهوة لا تكون إلا إلى محبوبٍ، والغضب يحصل من فوات ما نحب، والحياة من الخالق العظيم فيض محبة وعطاء، والموت كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( اثنتان يكرههما ابن آدم؛ يكره الموت، والموت خيرٌ له من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب ))، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه ))، ومع ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: (( لا يتمنين أحدكم الموت لضُرِّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ))،  ينبهنا إلى الصبر عند الشدائد، وينهانا عن الجزع، ويحثنا على طلب الخير، ذلك ليكون حب لقاء الله لا عن جزعٍ ولا هروبٍ، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كلنا يكره الموتَ ))، فبيَّن لها أن المؤمن إذا حضر أجله بشرته الملائكة برضوان الله عليه، فأحب لقاء ربه، فأحب الله لقاءه.

فهذا وجهٌ جليٌّ من أوجه الحب الذي هو صفة دين الله تعالى، تكلمنا فيه عسى أن نرفع الالتباس عن معنى الحب عند رجلٍ لا بد أنه قد علم أنه ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجلان تحابا في الله، أفلا ندين أنفسنا بدين الحب نحن أمة الإسلام!.