السنة الثالثة ربيع الأنور 1445 هـ - أكتوبر 2023 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
فهو الذي تم معناه وصورته
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

وبعدُ، قال تعالى في كتابه الحكيم: (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم : 5] ، ولا شك أن مِن أعظم أيام الله يوم مولد خاتم النبيين الذي أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، ولعلَّ من أحسن السُّنن ما اتفقت عليه الأمة من الاحتفال بيوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم، وما يقوم به علماء المسلمين من التذكير بهذا اليوم الجليل، والتعريف بسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، سيرةً وخُلُقًا، صورةً ومعنى، جسمًا وروحًا، كُلٌّ يقول في تعريفه قطرة مِن عين حقيقته، سعيًا لرِي كل ظمآنٍ لمعرفته، إذ المحبة والمعرفة متلازمتان لقوله تعالى في الحديث القدسي: "فأحببتُ أن أُعرَف"، ولعل من أوضح ما قيل في وصف رُتبته صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء في بردة البوصيري رضي الله عنه حيث قال:

فهو الذي تم معناه وصورته

ثم اصطفـــــــــــــــــاه حبيبًا بارئُ النسمِ

مُنَزَّهٌ عن شــــــــــــــــــــريكٍ في محاسنه

فجوهرُ الحُسنِ فيهِ غــــــــــير مُنقسمِ

دع ما ادعته النصـــــــــارى في نبيهم

واحكم بما شئتَ مـــــدحاً فيه واحتكمِ

وانسب إلى ذاته ما شئتَ من شرفٍ

وانسب إلى قدْرِهِ ما شئتَ من عِظَمِ

فإنَّ قـــــــــــــــــــدرَ رسولِ الله ليس له

حدٌّ فيُعـــــــــــرِبُ عـــــــنه ناطقٌ بِــــــفَمِ

   ولذا فلا يسعنا إلا أن نحلِّق في فلكِ البيت الأولِ من هذه الأبيات الشعرية؛ أعني تمام الصورة والمعنى للاصطفاء الإلهي، وهو قول الشاعر: ثُمَّ اصطفاه حبيبًا بارئُ النَّسَمِ، فاختصه بمقام ختم النبوة والرسالة الذي هو غاية الكمال الإنساني، فإن رتبة الإنسان الكامل لا نقص فيها، وإنما يكون فيها كاملٌ وأكمل، فما من نبيٍّ أو رسولٍ إلا وقد حاز ذلك الكمال، فهو الإنسان الكامل في زمان بعثته، ثم يكون لورثتهم ذلك الكمال، فيقال في القطب: إنه الإنسان الكامل مع علمنا بأن الأولياء لا يبلغون رُتَبَ الأنبياء، وإنما يكون كل وارثٍ على صورة من ورثه في شريعته، ولا يخلو زمانٌ من الكُمَّلِ وإن خفوا عن أكثر الخلق.

   ومعلومٌ أن أول من ظهر بهذا الكمال المشار إليه في عالم المُلك هو آدم عليه السلام، وقد أشار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: إن الله خلق آدم على صورته، قيل: يعني صورة أخلاقه تعالى، وهي الصورة التي نتصورها بالنظر إلى الأسماء الإلهية، وقد فسر بعض العلماء هذا الحديث بوجوه أخرى، إلا أننا ذهبنا في تفسيره وجهًا يؤيده ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: خلق الله آدم على صورة الرحمن، أو ما قاله صلى الله عليه وسلم مما هذا معناه، وقد خلقه الله تعالى على هذه الصورة المشار إليها لتصح له الخلافة المنصوص عليها في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة : 30، وينبغي للخليفة أن يكون على صورة من استخلفه، فكان آدم عليه السلام أول مخلوقٍ على الصورة، فحمل الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وأظهر شريعة ربه التي أنزلها عليه لصلاح العالَم.

   وما زالت الشرائع الإلهية تتنزل على الأنبياء المختارين، فيبرُز كل نبيٍّ بدعوةٍ شرعيةٍ تستند إلى الاسم الذي هو مظهره؛ أعني بحسب ما تجلى به الحق تعالى على ذلك النبي، ولذا اختلفت الشرائع في الأمم، وقد فصَّل الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي تلك المسألة بقوله: إنما اختلفت التجليات لاختلاف الشرائع، واختلفت الشرائع لاختلاف النِّسب الإلهية، واختلفت النِّسب الإلهية لاختلاف الأحوال، واختلفت الأحوال لاختلاف الأزمان، واختلفت الأزمان لاختلاف الحركات، واختلفت الحركات لاختلاف التوجهات، واختلفت التوجهات لاختلاف المقاصد، واختلفت المقاصد لاختلاف التجليات. "انتهى"، فكان الأمرُ دوريًّا، وبرز كل نبيٍّ بحسب ما تجلى به الحق تعالى عليه من الأسماء، وكان قد تجلى على آدم عليه السلام بالأسماء كلها، كما قال تعالى: (وعلَّم آدم الأسماء كلها)، ومن تعلَّم شيئًا فقد حصَّله.

   ثُمَّ بعث الله سبحانه وتعالى خاتم النبيين سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة الجامعة لكل ما سبق من الشرائع، فأبرزه صلى الله عليه وآله وسلم بالأسماء كلها، وقد كان تحقق بها في السبق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد) أو ما قال صلى الله عليه وآله وسلم مما هذا معناه.

   فكانت جمعية الأسماء الإلهية في آدم عليه السلام عبارة عن الصورة المجملة التي خلقه الله عليها، وما زالت تنبسط في الأنبياء كما أشرنا، وما زالت تنبسط أنوارُها في العالم فتقبلها البواطن وترقى بها الأرواح، إلى أوان بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان لها فيه تمام البسط والظهور، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) والأنبياء كلمات الله، كما قال تعالى في حق عيسى عليه السلام : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) [النساء :171]، فهو النبي الجامع، والرسول الخاتم، حاز كمالات من سبقه من الأنبياء والمرسلين حين تمَّم الله صورته ومعناه على ما علمه وقدَّره جلَّ شأنه في سابق علمه، فمن عَلِم ذلك انجلى له المقصود بالصورة التي خلق الله آدم عليه السلام عليها، فإنَّ الحقَّ تعالى لمَّا أحبَّ أن يُعرف أفاض من نوره على ظلمة العدم فأعدمه، فكانت بذرة العالم، والعنصر الأعظم الذي خلق الله منه جميع الأكوان، وقد ورد في الحديث أنه تعالى أول ما خلق خلق نورًا، وهو نور نبيه وحبيبه ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان ذلك النور حقيقةً مجردة عن كل صورةٍ، ولذا لا يقدر أي أحد على أن يسميها فضلًا عن أن يدركها لما عليه من أحدية الجمع في تلك الفيضة.

   ثم إنه تعالى تجلى لذلك النور لمَّا أحب أن يُعرف، فكان ذلك النور له كالمرآة، فانطبعت فيه صورة الحق تعالى؛ حياةً وعِلمًا، إرادةً وقدرةً، إلى آخر ما تجلى به مما تقبله تلك الحقيقة الأحدية، فصَحَّت لها الأسماء بهذا التجلي، فكان من أسمائها القلم، والعقل، وحقيقة الحقائق، والحق المخلوق به، والحقيقة المحمدية، واللطيفة الأحدية، وغير ذلك مما أشار إليه العارفون، وكان ما ارتسم فيها عبارةً عما تجلى لها به، فظهرت تلك الحقيقة بصورة الكمال الإلهي في عالم الخلق، وهي الصورة التي خلق الله تعالى الإنسان عليها، وهي العنصر الأعظم الذي أبرز الحق تعالى عنه الأكوان، فإن الحق تعالى إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، وقد علمنا أن ثَمَّ شيئية يتوجه عليها الأمر الإلهي بالتكوين، وهي شيئية المعدوم الممكن إيجاده، وقد أطلق عليها العارفون الأعيان الثابتة، يعني الثابتة في علم الله تعالى، ولا يصح أن نتصور أن الحق تعالى يتوجه عليها في علمه القديم ثم يقول لها كن فتكون؛ لِما يعطي هذا من الحدوث في حضرة علمه، وإنما الأمر كما نبهنا عليه في التجلي الأول، حيث تجلى باسمه العليم على حقيقة الحقائق فانصبغت بما تجلى به سبحانه، وبرزت بصورة علمه، وحوت معلوماته التي هي صور الأعيان الثابتة في علمه، الموصوفة بكونها معلومات علم الله القديم، وعلى هذه الأعيان يكون التوجه فيسري الأمر الإلهي في العالَم.

   فبان لنا أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم روح آدم ومعناه، بل روح العالَم وسر حياته على التحقيق، وهو مجلى الصورة الإلهية التي تجلى بها الحق تعالى على النور الأول المخلوق، وأنه تعالى لَمَّا شاء أن يختم رسالته في العالم خلقه بشرًا وعلَّمه وأدَّبه حتى كملت صورته وتم معناه فاصطفاه، صلى الله عليه وسلم.