
فقه الحديث النبوي
د. أحمد ممدوحشرح حديث: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بُعثت، أو: أنزل عليّ فيه»
(2)
عن أبي قتادة الأنصاري أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين؟ قال: «ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه، ويوم بُعثت، أو: أُنزِلَ عليّ فيه».
الشرح:
هذا حديث شريف رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.
ورواه أبو داود عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت صوم يوم الاثنين، ويوم الخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن».
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن فضل صيام يوم الاثنين أو عن الحكمة من تخصيصه إياه بالصوم عن باقي الأيام، فأجاب منوهًا بشأن هذا اليوم المبارك: «ذاك يومٌ ولدت فيه، ويوم بُعثت، أو: أنزل عليّ فيه»
والتنوين في قوله: «يوم» للتعظيم، وقوله: «ولدت فيه، ويوم بعثت» أفاد به أن شرفه بما ظهر فيه من ولادته وبعثته.
و«أو» شك من الراوي هل قال: «بعثت فيه» أو قال: «أُنزِل عليَّ فيه» ؟ أي: الوحي؛ فنائب الفاعل مستتر.
والأحاديث في فضل يوم الاثنين وفضل صيامه متعددة؛ منها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظِروا هذين حتى يصطلحا، أَنظِروا هذين حتى يصطلحا، أَنظِروا هذين حتى يصطلحا».
وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم».
وهذا الحديث الذي نحن بصدده دال على أن الزمان قد يتشرف بما يقع فيه، وأنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه.
وقد ذكر فيه تشرف ذلك اليوم الميمون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ومجيئه إلى العالم، ثم استنارته ببعثته الشريفة، ولا شك أن النعمة الكبرى على العالم هو مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحياة ليحمل الشريعة الخاتمة والدين الكامل ويبلغه إلى العالمين فيخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويكون قائدًا لهم إلى النعيم المقيم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين﴾[الأنبياء: 107].
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" : "أعظم نعم الله على هذه الأمة: إظهار محمد صلى الله عليه وسلم لهم، وبعثته وإرساله إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[آل عمران: 164]؛ فإن النعمة على الأمة بإرساله أعظم من النعمة عليهم بإيجاد السماء والأرض والشمس والقمر والرياح والليل والنهار وإنزال المطر وإخراج النبات وغير ذلك؛ فإن هذه النعم كلها قد عَمَّت خلقًا من بني آدم كفروا بالله وبرسله وبلقائه، فبدلوا نعمة الله كفرًا، فأما النعمة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإن بها تمت مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده، وكان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم"اهـ.
ويستفاد من الحديث الشريف مشروعية الاحتفال بالذكرى العطرة للمولد النبوي الشريف؛ فقد ذكر أن المعنى الذي من أجله يصوم في ذلك اليوم الكريم هو كونه يوم ولادته ويوم بعثته، فكأن كون يوم الإثنين يوم مولده الشريف هو العلة في الصيام أو جزء العلة، ويكون هذا من باب اقتران الوصف بالحكم، وهو ما يعرف في علم الأصول بالإيماء؛ وهو أحد المسالك التي يمكن أن يتعرف بها على العلة في مبحث القياس.
فإذا كان مجيء النبي صلى الله عليه وسلم للدنبا أعظم نعمة، فشكر النعم وذكرها مطلوب مطلقًا؛ يقول تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[النحل: 114]، وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾[المائدة: 7].
وكذلك قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 58]، ومما جاء في تفسيره ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "فضل الله: العلم، وَرَحمته: مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]".
ومعلوم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة لازمة، ومثلها أيضًا تعظيمه صلى الله عليه وسلم. والشرع الشريف لم يحدد وسائل مخصوصة لشكر نعم الله تعالى، ولا لذكرها وتذكرها، ولا للفرح بها، ولا للتعبير عن محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تعظيمه وتوقيره، فلزم أن تترك هذه الوسائل على أصل الجواز، ما لم تصادم إحداها دليلا شرعيًّا أو أصلا مستقرًّا. والقاعدةُ الأصولية أن المطلق يجري على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده. فإن لم تصادم شيئًا مما ذكر كانت من حيث هي مفضية للمقصود المطلوب مطلوبة؛ والشرع يُثِيب على الوسائل إلى الطاعات كما يُثِيب على المقاصد؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، والإذن في الشيء إذن في مكملات مقصوده.
وإذا كان شكر هذه النعمة مطلوبًا في كل وقت، فإنه يتأكد في موعد حدوثها؛ لقوة المناسبة حينئذ.
وإذا كان إعلان الفرح بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالمًا من الحرب أمرًا مشروعًا ولو كان بضرب الدف والغناء؛ فلأن يكون الفرح بمجيئه إلى العالم وإعلان ذلك بالوسائل المختلفة أولى بالمشروعية؛ فروى الترمذي عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا»، فجعلت تضرب. وهذا الاستدلال هو ما يسمى في علم الأصول بـ"القياس الأولى"، وهو: ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل؛ لقوة العلة فيه، مثل: قياس الضرب على التأفيف، بجامع الإيذاء، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف؛ لشدة الإيذاء. وهو من أنواع القياس الجلي الذي يقطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع.
ومن الأدلة أيضًا: ما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه.
ولما سئل الحافظ ابن حجر عن عمل المولد، أجاب بما نصه: "أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها، كان بدعة حسنة، وإلا فلا"، قال: "وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت؛ وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة؛ كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة. وأيُّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم، لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى"اهـ.
وقد تتابع كثير من العلماء على مر العصور وتتابع الدهور على إقرار هذا الفعل واستحسانه لكونه مظهرًا من مظاهر الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم والشكر لنعمة الله تعالى العظيمة ومنته الجسيمة على عباده بأن أبرز لنا شخص هذا النبي الكريم إلى الوجود.
ومن اللطائف ما حكاه الصالحي في "السيرة الشامية" عن الشيخ أبي موسى الزّرهونيّ أنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فذكرت له ما يقوله الفقهاء في عمل الولائم في المولد، فقال صلى الله عليه وسلم: «من فرح بنا فرحنا به»"اهــ.
ونصوص العلماء في ذلك المعنى متتابعة كثيرة، وتآليفهم في نصرة القول بجواز الاحتفال بالمولد الأشرف عديدة، ومصنفاتهم في مولد النبي صلى الله عليه وسلم منتشرة.
وقد تتبع العلامة الشيخ محمد عبد الحي الكتاني ما استطاعه من كتب الموالد، ورتبها على حروف المعجم في مؤلف له فريد بعنوان: "التآليف المولدية".
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.