
فقه الحديث النبوي - 1
د. أحمد ممدوحشرح حديث: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه»
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت».
الشرح:
هذا حديث شريف رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات، وترجم عليه:باب فضل ذكر الله عز وجل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ورواه مسلم وغيره عنه بلفظ: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت».
وهذا الحديث الشريف يبين فضل الذكر وأن القائم به بالنسبة إلى الغافل عنه كنسبة الحي إلى الميت.
والذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا السَّكَن، وإطلاق الحي والميت في وصف البيت-في الرواية الأخرى-إنما يراد به ساكن البيت، فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة.
قال الفخر الرازي: "المراد بذكر اللسان:الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب:التفكر في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي؛ حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله، والذكر بالجوارح:هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمى الله الصلاة ذكرًا؛ فقال:﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 9]"اهـ.
ونقل عن بعض العارفين أنه قال: "الذكر على سبعة أنحاء؛ فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء".
والذكر قد رغبت الشريعة فيه وجعلته من أَجَلّ العبادات كما هو واضح في هذا الحديث الشريف وفي غيره من النصوص الشريفة؛ من ذلك:قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًاوَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الأحزاب: 41،42]، وقوله تعالى:﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 35].
وقال تعالى:﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152]
وقال تعالى:﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[العنكبوت: 45]؛ قال بعض السلف:أي ولَذِكْرُ الله تعالى أفضلُ من كل شيء سواه.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى:أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم».
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا:بلى.قال: «ذكر الله تعالى».قال معاذ بن جبل:ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله.
وروى الترمذي عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى:إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أنا آمرهم.فقال يحيى:أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وتعدوا على الشُّرَف، فقال:إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن»، وذكر منها: «وآمركم أن تذكروا الله؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله»، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
والذكر ركن ركين من أركان الطريق؛ قال الأستاذ أبو علي الدقاق: "الذكر ركن قوى في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر".
وقال: "الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد أعطى المنشور، ومن سلب الذكر فقد عزب".
ويقول ابن خلدون: "الذكر كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودًا بعد أن كان علمًا، ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة"اهـ.
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في"فتح الباري"في بيان مراتب الذكر: "الذكر يقع تارة باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال"اهـ.
والذكر دواء أكيد لأدواء القلوب وقساوتها؛ قال سيدى على المرصفي: "قد عجز الأشياخ فلم يجدوا للمريد دواء أسرع فى جلاء قلبه من مداومة الذكر، فحكم الذكر فى الجلاء للقلب كحكم الحصى فى النحاس، وحكم غير الذكر من سائر العبادات كحكم الصابون فى النحاس وذلك يحتاج لطول زمن".
وقال بعضهم: "الذكر إكسير الأوصاف الذميمة، فكما أن الإكسير يقلب الأعيان الخسيسة إلى الأعيان النفيسة، كذلك الذكر يقلب ظلمة الأغيار نورًا".
وقال الحكيم الترمذى: "ذكر الله تعالى يرطب القلب ويلينه، فإذا خلا عن الذكر أصابته حرارة النفس ونار الشهوة فقسا ويبس، وامتنعت الأعضاء عن الطاعة".
والذكر سيف المريدين، به يقاتلون أعداءهم من الجن والإنس، وبه يدفعون الآفات التى تطرقهم، والبلاء إذا نزل على قوم وفيهم ذاكر، حاد عنهم البلاء؛ قال ذو النون المصري: "من ذكر الله تعالى حفظه من كل شيء".
وقد قال أهل الله:إن للذكر آدابًا منها ما يسبقه، ومنها ما يقارنه، ومنها ما يلحقه.
أما السابقة:فالتوبة، والطهارة الكاملة، والتطيب، والسكون والسكوت ليحصل له الصدق في الذكر بأن يشغل قلبه بالله حتى لا يبقى له خاطر مع غير الله، ثم يتبع اللسان القلب، وأن يقيم الرابطة الروحية مع شيخه باستحضاره ليقطع صور الأغيار، وأن يرى أن استمداده من شيخه هو استمداده من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وريثه.
وأما المقارنة:فالجلوس على مكان طاهر مستقبلا القبلة، واضعًا راحتيه على فخذيه متربعًا أو كجلوسه في الصلاة، مع تغميض العينين؛ لتنسد طرق الحواس الظاهرة فتنفتح عيون القلب، واستحضار معنى الذكر بقلبه.
وأما التالية:فالسكون والخشوع وترقب وارد الذكر، وأن يمتنع عن شرب الماء عقب الذكر برهة، فإن الذكر يورث حرقة وشوقا إلى المذكور، وشرب الماء يطفئ ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.