السنة الثالثة رمضان 1444 هـ - إبريل 2023 م


مولانا الإمام أ.د. علي جمعة
افتتاحية العدد - 9
مولانا الإمام أ.د. علي جمعة

الاستغراق في الذكر

كل عام وأنتم بخير، ...
أظلنا ضيف كريم، ضيف جاء ليكرمنا على عكس الحال المعتاد، فإن الضيف ينتظر أن يكرمه أهل الدار، إلا أن هذا الضيف لا ينتظر منا كرمًا ولكن يجعله الله سببًا في الإكرام والغفران والعتق من النيران.

هذا الضيف هو شهر رمضان الفضيل، شهر رمضان المبارك، فهلموا عباد الله لاغتنام هذا الموسم الرابح، للتعرض لتلك النفحات الإلهية الطيبة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها» [رواه الطبراني في الأوسط].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال «التمسوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه].

فرمضان هو الشهر الذي يهيئ الله فيه جو العبادة، فصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» [رواه الترمذي وابن خزيمة والحاكم في المستدرك] .

ورمضان فرصة لبداية عهد جديد مع الله، فرصة للاستغراق في ذكر الله تعالى وترك الملهيات، وللاستغراق في كتاب الله تعالى، فرمضان شهر القرآن، وبين رمضان والقرآن والليل علاقة وطيدة، فالقرآن نزل في رمضان ونزل ليلًا، وقد أدركنا من مشايخنا رضي الله عنهم من استغرق في الذكر حتى طوى الله له الزمان.

فضيلة الشيخ عبد العزيز الشريف

كنا في رمضان وقال لي فضيلة الشيخ عبد العزيز الشريف: أنا صليت المغرب وأريد أن أسألك عن حكم الشرع في شيء حدث، صليت المغرب وبعدما صليت المغرب جلست أذكر الله، فجاءت زوجتي وقالت يا شيخ عبد العزيز ألن تتسحر؟ فالفجر قد أوشك على الآذان وأنا لم أزل أختم صلاة المغرب -استغرق الشيخ في الذكر فطوي له الزمان فلم يشعر بما بعد المغرب إلى قبيل الفجر ويخشى أن يكون بذلك الاستغراق قد وقع في الحرام لأنه أخَّر الإفطار وسيضيع منه السحور- ويسأل ماذا أفعل؟ فماذا أقول له؟!

ما حدث أني قبلت يديه؛ فهو رجل استغرق في الذكر مع الله حتى غاب عن الأكوان فخرج عن دائرة التكليف إلى دائرة التشريف، هو لم يقصد أن يؤخر الإفطار؛ ولا أن يضيع عليه السحور ولا شيئًا من كل هذا؛ ولكن ما حدث أن الله تعالى أذن له أن يدخل في دائرة التشريف فسبَّح مستغرقًا في تسبيحه فإذ به قريب من الفجر.

و قال لي : خفت أكون قد غبت عن الوعي فيجب أن أتوضأ –انظروا إلى مدى ارتباطه الشديد بالشريعة وأحكامها- فقام ليتوضأ مرة أخرى - بالرغم من أنه عند نفسه في ظنه لم تمض عليه إلا دقائق معدودة، جلس ليختم صلاة المغرب فإذ به قبيل الفجر، لكنه وبما أنه مضت ساعات فما الذي يؤكد له أنه لم يغب عن الوعي! فوجب عليه الوضوء - ويسألني هل هذا شرعًا صح أم لا؟

فقلت له: صح . فقام ليتوضأ ويصلى العشاء فأذن الفجر وضاع عليه السحور فواصل الصيام لليوم التالي وهو لا يشعر بجوع ولا عطش.

الحمد لله الذي جعلنا ندرك هؤلاء الناس لنخبركم عنهم، وتخبروا بهم من بعدكم.