
افتتاحية العدد - 14
مولانا الإمام أ.د. علي جمعةتصحيح البدايات
عندما شَرَّفَ الله الوجود بحضور حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت القضية في الهجرة؛ هل تُدَوَّن بأول ما بُعِثَ صلى الله عليه وآله وسلم، أو السنة الأولى من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم، أو السنة الثانية من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم، هذا كلام المسلمين فيما بينهم. ورأى سيدنا عمر رضى الله عنه أن يجعل بداية العام بعد الرجوع من الحج، فالسنة تبدأ بالمحرم. وكان العرب يقومون بِمَا يُسَمَّى بالنسيء، وهو أمرٌ معقد؛ لأنهم كانوا يستكثرون حرمة الأشهر الحرم: القعدة، والحجة، والمحرم، فكانوا يريدون سفك الدماء في هذه الشهور. وسفك الدم حرام في هذه الشهور، فيقومون بتغيير اسم شهر محرم ويسمونه صفرًا، ويؤجلون المحرم للشهر القادم، فيذهبون لكاهن؛ لكي يحسبها لهم. فعندما يجعل صفرًا محرمًا، ويأتي ربيع فيسمونه صفرًا، فتتزحزح الشهور؛ وعندما تتزحزح الدورة لا تتم، فكانوا يقومون كل سنتين بحركة في الزياة والنقصان. فكانت تتم بعد 18 سنة وتتعدل الدورة مرة أخرى . وهكذا.
وسبحان الله في السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت نهاية الـ 18، وكانت الدورة منضبطة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم في حجَّة الوداع: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله الخلق» بداية صحيحة، قال تعالى: (( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ )) الحمد لله، جاءت حَجَّة سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم مضبوطة؛ في أن الدورة لفت إلى كما خلق الله الخلق، وأرسل صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق ليحجّ بالناس في السنة السابقة فمنع ما كان يفعله العرب من مخالفات في الحجّ ومنع المشركين من الحجّ، ليكون حجّه صلى الله عليه وآله وسلم بداية جديدة للناس.
ومع انتهاء شهر الحجّ ودخول العام الهجري الجديد نتذكّر هذه البدايات، ونبدأ بدايات جديدة بدورنا، وإذا صحت البدايات كانت النهايات على غاية النُّجْح والقَبول من عند الله. فكيف تكونُ البدايات؟ وما النهايات؟ البدايات هى الالتزام بالشرع الشريف، فما من واحدٍ من أهلِ الله تعالى إلا وأمرَ بما أمرَ اللهُ به ونهى عما نهى الله عنه: أمرَ بالمعروف وَنَهَى عن المنكر، ولم يعكس فيأمر بمنكر أو ينهى عن معروف. تصحيح البدايات أن تلتزم بهمةٍ بما أمرك الله به، وأن تنتهي عما نهاكَ اللهُ عنه، أي أن تلتزم معالم الشرع الشريف الذى ما أنزله الله للعالمين عبثًا وإنما جعله سببًا لخيرهم ولحسن معاشهم وارتياشهم، ولحسن معادهم ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. والالتزام بالشرع الشريف يبدأ بالطهارة فإنها مُقَدِّمَةُ الصلاة، والصلاة عماد الدين وذُرْوَةُ سَنَامِه وأعلى الأمر وخيرُ موضوع والفرق بيننا وبين الكافرين والمشركين. لا يسجد أحد على وجه الأرض لربه إلا المسلمون ولا يتوجه إليه بتلك العبادة إلا هم. فهم خير العابدين جَمَعُوا فى تلك العبادة ما عليه الملائكة الكرام في الملأ الأعلى، فمنهم راكع، ومنهم ساجد، ومنهم قائم، ومنهم تالٍ، ومنهم ذاكر، ومنهم من يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من يتوجه، ومنهم من يتعلق، ومنهم من يخشع، فجمع المسلم بين ذلك كله في صلاته فتوجه إلى القبلة طاهرًا خاشعًا وسجد لربه. راكعًا قائمًا مصليًا ذاكرًا تاليًا مسبحًا، فجمع بين أنواع العبادات التي كانت عليها الملائكة وما زالت في الملأ الأعلى.
تصحيح البدايات بأداء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يقبل الله ذلك كُلَّهُ إلا بِحُبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَحُبِّ آل بيته. فإن حب النبي المصطفى والحبيب المجتبى وحب آل بيته من أركان الإيمان.
لا يقبل الله عدلًا ولا صرفًا ممن لم يَدْخُلْ حُبُّ النبي قَلْبَه. فإذا دخل حب النبي قلبك فاعلم أنك على الخير وأنك مختوم لك بالسعادة، وإذا كان على غير ذلك فهذا هو الخذلان المبين؛ ويجب عليك أن ترحل مما أنت فيه إلى رضوان الله بأن تحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتم حبه صلى الله عليه وآله وسلم إلا بحب أهل بيته، قال صلى الله عليه وآله وسلم "تَرَكْتُ فِيكُم مَا إِنْ تَمَسَّكْتُم بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِى أَبَدًا كِتَابَ الله وَعِتْرَةَ أَهْلِ بَيْتِى"، ترك فينا كتاب الله نهتدى به، وترك فينا عترة أهل بيته نحبهم بحبه، ونوقرهم بتوقيره ،وأن نُحِبَّهُم أكثرَ من حب أهالينا.
من أجل أن الطهارة كانت أول البدايات قالت السيدة نفيسة رضى الله تعالى عنها عندما مات الإمام الشافعي رضى الله تعالى عنه -وكان إمامَ الدنيا وناصرَ السنة وكان من أهل البيت - قالت: "رَحِمَهُ اللهُ كان يحسن الوضوء" فإذا أحسن الوضوء فقد صحح البدايات؛ ومن صحح البدايات أَنْجَحَ الله له النهايات. فأشارت بالبداية إلى النهاية. بعض الناس القاصرين يظنون أنه يحسن الوضوء أي كأن وضوءه على درجة ضعيفة وبعلم قليل؛ بل كان يحسن الوضوء أي أنه كان على علمٍ وإخلاص، وكان على الطريقة المحمودة، وكان على الشرع الذي أُمرنا أن نتمسك به، فصار إمامَ الدنيا نَذْكُرُهُ إلى يومنا هذا.
وهو صاحبُ مِصْرِنَا هذا لأنه مدفونٌ فيها. ولذلك شاع مذهبه هنا وأصبحت مِصْر من أركانِ المذهبِ الشافعي عَبْرَ التاريخ. كان رَحِمَهُ اللهُ يحسن الوضوء؛ فترحُّم السيدة نفيسة رضي الله عنها حكمة وذِكْرُهَا للبدايات حكمة. وفيها إشارة إلى أن نجاح النهايات إنما يكون بتصحيح البدايات.