
في الدين
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريالحمد لله، وبعد...
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم»، فالدين عِلمٌ، وَلكُلِّ عِلْمٍ أسرارٌ، وتتمايز مراتب أهل كل علم بحسب تحصيلهم لتلك الأسرار، وقد سمّوا الدين شرعًا لمّا شرَّع فيه الحق تعالى للعبد ما يدين به نفسه، ويرى فيه الصلاح له ولمن حوله، فالشرعُ وجهُ الدين الظاهر للخلقِ، وعِلم الشريعة كسائر العلوم، ولذا تقدَّم فيه مَن تقدَّم وتأخر من تأخر، بل من الناس من اعتقد ومنهم من أنكر، والدين أوسعُ مِنَ الشرعِ وأعم، وهو عند الله الإسلام، فهو على التحقيق واحدٌ، وتتنوع الشرائعُ بحسب أحوال أهل كل زمانٍ، ومشرب النبي المُرسَل لكل قومٍ، وهُم صلوات الله عليهم مظاهرُ الحَقِّ ومجالي أسمائه، فكانت كل شريعة مُنزَّلة لهداية قومٍ بحسب أحكام الاسم الذي نبي تلك الأمة مجلى له، حتى بعث الله سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، فقال جل شأنه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَـٰمَ دِينًا﴾[المائدة: ٣]، فكان إكمال الله تعالى الدينَ للناس بإنزال أتمّ الشرائع وأجمعها، أرسل بها خاتم الأنبياء المرسلين سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، وقال فيه: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] ، فكان الدين لله والشرع للرحمن، فمن لم يجد أنفاسَ الرحمن في الشرع لم يدرك من الدين إلا الرسوم.
ولقد توهم كثيرٌ من الناس بالظَّنِّ أنَّ الشريعة عبارة عن الرسوم الظاهرة، وما علموا أن ما ظهرَ مِنَ الشيء لشخصٍ ربما لم يكن عين ما ظهر لغيره، وذلك لتفاوت أحوال الحواسِّ في الناس ما بين صحة وسقم، وتمايزهم في الفِطَر والأفهام كذلك.
وما نازع من نازع إلا لغفلته عن أن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، فالشَّريعَةُ ظاهرُ الدين، والحقيقةُ باطِنُهُ، وكلٌّ منهما بَحرٌ لا يُدرَكُ قَعرُهُ، وقد جَعل الله بين كلَّ بحرين برزخًا، والبرزخ لابد وأن يقابل كلا البحرين بذاته، فلا تحسبن أن الله جعل البرازخ للفصل ولا للوصل، إنما جعلها حفظًا من البغي والطغيان، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: ١٩ – ٢٠].
فالدينُ ـ على ظهوره ـ له ظاهرٌ هو ما أنزله الحق تعالى باللسان العربي المبين وخاطب به الناس أجمعين، وهو المُسمى شريعة، وله كذلك باطنٌ هو علم الحقيقة، ويتمايز في كليهما الناس تمايز معرفة أهل كل علم بأسراره.
أما البرزخ الجامع الذي جعله الله بين الشريعة الظاهرة والحقيقة التي هي باطنُ الدين فهو المسمى طريقة، فمن لم ير الوجهين فيها فما شَمَّ من الطريقة رائحة، ولا سنحت له من الشريعة سانحة، ولا لاحت له من الحقيقة لائحة، ولا دعا لغير البُرح والبارحة.