
في الخلافة
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريأقولُ لخلّي والحقائقُ قد بدت
شموساً لعين القلب يا من لهُ قلبُ
تجلى لعينِ القلبِ معنىً مجرّد
ولو عشقتْ مجلاهُ لاحتكمَ الريبُ
ولكنها غضّت عن الرسمِ طرفَها
ولم يُلهها كونٌ ولم يُغرها غيبُ
وما علمتْ إلا حقيقةَ كونِها
وما أدركتْ إلا بما أثمرَ القُربُ
فلا السمعُ في حالِ التجلي بسمعها
ولا أبصرت إلا بما حكمَ الحُبُّ
إذا النفلُ أفناها تراها كما بدت
إذا الفرضُ أبقاها تهيم بما تصبو
وتدري بأن الحقَّ جدٌّ مغايرٌ
لكلِّ الذي يبدو، لذا وُجِدَ القُطبُ
فها قد أبنتُ السرَّ فاصدح بما تجد
وقل ما تشا في العبدِ إذ مدحَ الربُّ
الحمد لله بسر حمده، والصلاة والسلام على حبيبه وعبده محمدٍ صاحب الإسراء وآله وصحبه ومن تبعه من الأولياء وبعد...
فإن معرفة الحقائق مجردة عن كل رسم ووصف ونسبة محال، إذ لا يصح تمييز في مثل هذا الحال، وإنما يكون الإدراك لخواص الأشياء لا لحقائقها المجردة، ومن هنا فإن التجلي لابد وأن يكون في الصوَر، كان ذلك التجلي لحقيقة إلهية أو كونية، ثم إن كل صورة ومجلى وإن كانت دالة على المتجلي فيها من وجه فهي حجابٌ من وجهٍ آخر، ولذا فإن معرفة الحقائق تستلزم العبور لما وراء الصوَر، وهذا مما لا يكون إلا برفع الحُجب الحاصل باستهلاك النفس في المجاهدات والرياضات من العبادات، وهي الفروض والنوافل، وقد فصّلنا الكلام فيها في غير موضعٍ وبخاصة عند ذكر الحديث القدسي: "ما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها" الحديث.
فثم عبدٌ لله؛ بل عبادٌ له تعالى حصلوا في مقامات القرب، ونالوا رتبة الخلافة بالجعل المذكور في القرآن، وهم الأولياء الأمناء، كشف الله تعالى لهم عن الحقائق فتحققوا بها، وخلعَ عليهم ما شاء من خِلعِ الأسماء والصفات، وهو الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، فكملوا رضوان الله عليهم في مقام العلم به، ونالوا حظوظهم من معرفته التي هي مطلب كل مؤمن، لقوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قال سيدنا عبد الله بن عباس: أي ليعرفوني.
ولمَّا كان الحق تعالى "ليس كمثله شيء" فلا يشبه شيئًا، ولا يشبهه شيء، وكانت الأشياء تتعارف بالمؤتلف وتتناكر بالمختلف، ولا مناسبة بين الحق والخلق تعالى، جعل الله تعالى له خليفةً في الأرض من جنس العالم، وأودع فيه مناسبةً برزخية تكون بين الحق والخلق، فتصح معرفة العبد بربه بالنظر إلى حقيقة الإنسان الكامل، وكان آدم عليه السلام أول الخلفاء، ثم توارث مقام خلافته الأنبياء من بعده والأولياء بعد ختم النبوة بخاتم الأنبياء وسيد الآباء والأبناء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اصطلحوا على تسمية الخليفة بالقطب الفرد الجامع وواحد كل عصر.
فإن سأل سائلٌ وما تلك المناسبة البرزخية؟ قلتُ: الوحدة أولا، ثم ما يلزمها من النورانية والصفاء، فمن طلب معرفة الحق تعالى طلبها بالمناسبة التي بينه وبين تلك الحقيقة البرزخية من الوحدة والنورانية والصفاء، وكذلك ينبغي أن نعلم أنَّ كل مدد إلهي للخلق يكون بواسطتها لعدم احتمال الأغيار نورانية الذات المحضة، إذ كانوا في حضرتها عدمًا محضًا، فلما أسدل حجاب العزة الأحمى؛ وهو نور الأنوار وسر الأسرار وحقيقة النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم، حجبَ عن الأعيان الثابتة نور الذات الماحقة فظهرت الموجودات بالرحمة المهداة.
ولبيان ما يُقرِّب إلى الأفهام حقيقة القطب ومعنى القطبانية يلزمنا أن نُجمل ما ذكره أهل هذا الفن وبخاصة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي رضي الله عنه مما أرادوا نشره وتعريف الناس به من مراتب الولاية.
غير أن الكلام عن مراتب الأولياء يلزمه أصول علمية من لم يعرفها غلط في إدراك مقاصد العلماء، وأول هذه الأصول معرفة كون المراتب نِسب عدمية لا وجود لها في ذاتها، ومعرفة ما لكل نسبة من أحكام على المنتسبين بها، ولا فخر عندهم بالعدم ولا تفاخر عند العقلاء بالمعار، فلا فخر لعبد بما ظهر به من المراتب؛ بل هي تبعات وأعباء مما يتحمله عباد الله المقربين من البلاء.
ثم إن اعتقاد كون الباطن عبارة عن باطن الظاهر اعتقاد ناقص، حيث نعلم أنه قد يبطن علينا ما لم ندرك له مظهرًا أصلا، وكذا يبطن كثيرا مما لا نسبة بينه وبين ما ظهر، كما لا يصح النظر إلى ما ظهر باعتباره صورة ما بطن، بل الباطن دولة والظاهر دولة، وإن حدث اشتراك بينهما فلا تطابق بالضرورة، ولا يرى عاقل إحاطة أو استيلاء لدولة الباطن على دولة الظاهر وإلا لما صح الحساب لانتفاء الاختيار الذى للعالم الظاهر.
فمن أحكمَ هذه القواعد عَلِمَ أن اتصال الباطن بالظاهر من حيث برزخ ما لا يدركه إلا أهل هذا الذوق، وإن كانت الدنيا برزخا بين ما كان وما يكون.
وبعد ما تقدم ينبغي الانتباه إلى أن كلام الشيخ الأكبر وأهل هذا الطريق عن مراتب الأولياء من باب الكلام عن الحقائق. ومن المعلوم كون الحقائق لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تنقلب أعيانها، وإنما التغير في عالم الصور، والحقائق مجردة عن الصورة باقية على أصلها في علم الله.
و كل حقيقة لا بد لها من مظهرٍ؛ بل مظاهر في مراتب العالم كحقيقة الأعداد المجردة، والواحد منشأ العدد، فللواحد حقيقة ثابتة، ولها صور في مراتب العالم المختلفة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما علم أحد كنه الواحد، وقد قال الإمام علىُّ بن أبى طالب كرم الله وجهه:
وفي كل شيءٍ له آيةٌ
تدل على أنه الواحدُ
"قيل هي واحدية الشيء" ثم إن آخر مراتب العالم مرتبة الإنسان، بها تم العالم، وبرفعها عن العالم يتبدل، وذلك بقبض آخر صور هذا الموجود الإنساني. ولحقائق الأعداد صور وتمثلات في مرتبة الإنسان ولا بد، والإنسان اسمٌ لحقيقة كونية كلية ظهرت تلك الحقيقة أول ما ظهرت في آدم عليه السلام، فهو واحد هذا النوع، وقد علَّمه ربه جل وعلا الأسماء كلها، ثم تناسل وتكثرت الصور الآدمية، وحمل منها من حمل ما يتسع لحمله من السر الإنساني، وعلى قدر تحقق الشخص الإنساني بجوهره على قدر رتبته في الإنسانية.
و ثمّ شخص في هذا العالم في كل زمان قد تحقق بحمل سر الإنسان، فذلك هو الواحد الفرد الجامع المتصور في الصورة الآدمية، المتحقق بالحقيقة الإنسانية الكمالية، فهو واحد عصره، وحقيقة الواحد على ما هي عليه لا تتبدل، والواحد الحق هو الله تعالى لا رب غيره، جلَّ أن تكون واحديته واحدية ذوات الأعداد، أما الواحد العدد فمرتبة عدمية لها تأثير وتأثر فيمن انتسب لها أو انتسبت إليه.
وكذلك كل حقيقة؛ كحقيقة العلم فتقول هذا عالِم إذا انتسب إلى العلم، فأثَّرت حقيقة العلم فيه صفةً لم تكن عنده بغير انتساب، وكذلك العلم يتأثر بنسبته إلى شخص العالِمِ: فتقول فى علم العالِم مِن المخلوقين: علم محدث، وفي علم الله نقول: علم قديم.
ومتى علمنا ما ذُكر فنقول إن للواحد حقيقة جامعة، فإن ظهرت في شخصٍ من أشخاص النوع الإنساني فهو الواحد في جنسه؛ كمن جمع علوم القوم وأسرارهم وأخلاقهم، ومثاله أهل الصنائع؛ كالنجار فلا بد أن يتفاوت أهل هذه الصنعة في معرفتها وإتقانها على درجات ومراتب، ولو بحثت في أهلها لوجدت من هو أعلم وأتقن أهل هذه الصنعة ويكون عليه مدار الصناع سواء علمه الناس أم لم يعلموه؛ فإن علمناه فهو المُقدَّمُ وصاحب التلقين، وإن بطَنَ وخفى فرحمة بالصناع حتى يسعى كل صانع إلى نيل مرتبته؛ فذلك هو القطب الفرد الجامع.
ثم إن للاثنين حقيقة ومرتبة، فحقيقتها جمعيتها، ومرتبتها عبارة عن تكرار الواحد في مرتبتين، وظهور حقيقة الاثنين في العالم إنما هو العبودية والربوبية، وكذا ظهرت في الظاهر والباطن، وظهورها في عالم الإنسان كثير، وفي الولاية تظهر بتكرار الواحد في مرتبتي الظاهر والباطن، فالولي الناظر إلى الظاهر هو الناظر لله في المُلك، و الآخَر الناظر في الملكوت فهما الإمامان.
ثم الأربعة للجهات الأربعة، والسبعة لأقاليم الليل والنهار، والثمانية كحملة العرش، والاثنا عشر لمراتب العدد؛ أعني مراتب الآحاد التسع ثم العشرات فالمئات فالألوف، فهؤلاء اثنتا عشر مرتبة بهم تمت مراتب الأعداد.
ثم الأربعون لسر الكمال، ثم الثلاثمئة للأخلاق "إن لله ثلاثمئة خُلق من تخلق بواحدة منها دخل الجنة" وتجتمع هذه الأخلاق في القطب الآدمي، ولذا قيل أن في كل زمان ثلاثمئة رجل على قدم آدم عليه السلام.
وكذلك ثَمَّ أسرارٌ ملكية للثلاثة، والخمسة، والستة، والتسعة، ولسائر الأعداد، ولكل حقيقة صور وتمثلات في كل مرتبة، فلا نطيل بذكرها حذرًا من الخروج عن القصد الذي هو الكلام عن الحقائق.
والفرد الجامع عبد يجوع ويعطش إلا أنه محل نظر الله للعالم؛ لمحض عبودته وافتقاره، فيرحم الله به العالم فهو سبب رحمة الله بهم، ورزقهم، وحفظهم، وقد جاء فى الحديث النبوي الشريف "إن الله ليحفظ بالرجل أهل بيته وأهل دويرته وأهل بلده"، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم مما هذا معناه، و قد قال صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: "لا تقوم الساعة وفي الأرض رجل يقول الله الله"؛ وهو ذكر الأقطاب، والله يهدى إلى الصواب.