السنة الثالثة رمضان 1444 هـ - إبريل 2023 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
في الاستحضار
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

خليليَّ إني قد سئمتُ مِن الهوى

ومِن نفس مَن لم يدرِ هل ظنّ أم نوى

 وكل أماني المرء لا بد لو يرى

مواقعة إن سدد السير أو غوى

 فلا تنظرن للشيء قبل حدوثهِ

وإن شئتَ فانظر في الفؤاد وما حوى

 فذلك سرٌّ إن تحققتَهُ ترى

عجائبَ ما أبدى الزمانُ وما طوى

قال رسولُ الله صلى الله عليهِ وآلهِ وسلَّم: "إنما الأعمال بالنيات"، فالنيّة روح العمل،  والنيةُ محلُّها القلب؛ فللنياتِ صوَرٌ محلُّها القلب، ثمَّ تصدر الأعمال عنها بواسطة الجوارح، وإنما يكون ذلك بحسب الحاجات والأماني، ولا تكون الأماني إلا بالتمني، وهو توهُّمُ صورةَ المطلوب؛ وقد قيل الوهمُ خيالٌ كاذب؛ مِن حيث وقوع صور الأماني في الخيال المتصل؛ وهو خيال الشخص منَّا، الذي هو قوةٌ مِن القوى الدماغية أيضاً؛ أمَّا الخيالُ الصادقُ فعبارةٌ عمَّا يقعُ في خيالِ الإنسانِ الكبيرِ؛ حيث العالم عبارة عن إنسانٍ كبير ذي عقلٍ وفِكْرٍ وذاكرَةٍ وَوَهْمٍ وَخَيَالٍ، إلى غير ذلك من القوى المَلَكِيَّةِ والأجزاءِ، كالأرض والسماء.

ولمَّا كان تعالى قد أودعَ في الإنسانٍ دقائقَ ما في العالمِ مِنَ الحقائقِ لكونه على الصورة؛ أو بعبارة أخرى لكونه مختصراً شريفاً للعالم؛ وفي العالم يوجَدُ الرفيع والوضيع؛ كانت الرفعةُ والضِعَةُ في الإنسانِ بحسبِ تصريفه لقواه وجوارحه في الأعمال والأقوال. وكلٌّ مُيسّر لِما خُلق له.

وقد اشتركت التربية مع الترقية في أسرار، ومِن جملة هذه الأسرار تصريف القوة الوهمية فيما هو عالٍ، وَصْرفُهَا عَنْ كلِّ دونٍ مِن شئونِ الدنيا، والدون مِن شئون الدنيا عبارة عن كل ما لا يُعِينُ العبدَ على طاعةِ الله تعالى وموافقة إرادته صلاح العالم، ولذا قال أشياخنا إن مدار أهل هذه الطريقة المثلى في فَلَكِ الإحسَانِ.

والتَّوَهُّمُ عبارةٌ عن استحضارِ صورةِ الشيءِ، وانطباعِهَا في نفْسِ المُتَوَّهِّمِ، ويكون انطباعها بحسب موافقة الصورة لهوى النفس، وقد يرسم المتوهِّمُ تلكَ الصورةَ في لَوْحِ خَيَالِهِ، مَهْمَا كَانَتِ الصورةُ شريفةً أو وضيعة؛ أما القلبُ فلا يقبل مِن الصُّوَرِ إلا اللطيف الشريف. فمَنْ تَوَهَّمَ شيئاً تمنَّاه، ثُمَّ نَظَرَ إلى قَلْبِهِ فَوجَدَ صُورتَهُ مُنْطَبِعَةً فيهِ، عَلِمَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ، وإنْ كانَ إدراكُ ذلكَ عسيرًا، إلا على أربابِ القلوبِ، إذ الغالب النظر إلى لوح النفس، وَثَمَّ منْ يحملُ صورةَ مَا توَهَّمَ إلى لوْحِ خَيالِ الإنسانِ الكبيرِ مَتَى عَلِمَهُ.

وقد يستعملُ أصحابُ الهِمَمِ وَالْعَزَائم هذهِ القوةَ الوهميةَ في التأثير على الغيرِ، بطبعِ الصورةِ المُتَوَهَّمَةِ عندهُمْ في وَهْمِ مَنْ أرادوا. وكذلك يكون سحرُهُمْ لأعْيُنِ الناسِ؛ إذ يُسرِّحون بصَرَ الْمَقْصُودِ لَهُمْ فِي عالَمِ وَهْمِهِ، ويتسلطون عليه بعزائم مخصوصةٍ وأسماء، فيرى ما انطبعَ فيه مما تسلطوا به عليه، فمن صرّف وهمه في اللطائف لا تنطبع فيه صُوَرُ ما أرادوا، وهكذا يرتدُ مَكْرُ السَّحَرَةِ عليهم، متى أراد أهل الحضور مع الحق.

فالاستحضار مِن أدَقِّ الأسرارِ، إذ يصرف وَهْمَ الشخصِ مِنَّا إلى عالَمِ اللطائفِ عَنْ عَالَمِ الكثائفِ، وقد عَلِمْنَا جميعًا مَا يصيبُ المرءَ من العللِ بتعلُّقِ وَهْمِهِ بِمَا هُوَ دون، والاهتمام بما لا يتحقق وما يزول، كما أنَّ مِنْ عِلَلِ نَفْسِ صَاحِبِ الْوَهْمِ كثرةَ المطالب والهموم؛ فمن جمع وَهْمَهُ عَلَى هَمٍّ وَاحِدٍ فَهُوَ صاحبُ الْهِمَّةِ لَا الْوَهْمِ، جمعنا الله وإياكم على أشرف مطلوبٍ بمحض فضله، ثُمَّ إنِّي أُبَيِّنُ ذلكَ بقولي:

فلا بأسَ عندي أن أراهَا توهُّمًا

فإنْ هِيَ تأذنْ لي تنَعَّمْتُ في الفَضْلِ

فأُضمرُ في سرِّي مفاتنَ حُسْنِهَا

وَأنْقُشُهَا في الْقَلْبِ في مَوْضِعِ الْوَصْلِ

وَأكْتمُ سِرِّي عَنْ وُشَاتِي لَعَلَّهَا

تُبَاشِرُ صُورَتَهَا وَأكْتِمُ عَنْ أهْلِي

فَتَخْتِمُ مَا تَخْشَى عَلَيْهِ بِخَتْمِهَا

وَأكْتِمُ مَا أخْشَى عَلَيْهِ عَنِ الْعَقْلِ

ولَمَّا كانَ التصوفُ فنًّا مِنْ فنونِ الحياةِ، يسعى إلى ضبط العلاقةِ بين العبدِ وَرَبِّهِ، وبَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَالْعَالَمِ، وَهُوَ إتْيَانُ الأمرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ يَرْضَى سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وقد أجمع العلماءُ على أن التصوف عبارة عن الولوج إلى مقام الإحسان، كما سبقت الإشارةُ، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

ومن هنا كان دورانُ أهلِ هذَا الطريقِ في فلَكِ الْمُشَاهَدَاتِ، مما لا يقوى عليه أهل البدايات، ولذا قال الفقير إلى رحمة ربه "فلا بأس عندي أن أراها توهّمًا"، وكيفية ذلك أن يرسم الطالب صورة مطلوبه بقلم وَهْمِهِ فِي لَوْحِ خَيَالِهِ، وهو المعبر عنه في اصطلاح القوم بالاستحضارِ أو الرابطة، وَهِيَ مِنْ أعْظَمِ الرياضاتِ فائدةً في الانفتاح على برزخ الخيال. وتكون باستحضار المريد لصورة شيخه أولًا، وأنه جالسٌ بين يديه، فإن داوم على تلك الرياضة تمكنت صورة مطلوبه من جميع حواسه، فحصلت المقابلة الروحانية، وهذا معنى قول الفقير: فإن هي تأذن لي تنعَّمتُ في الفضلِ؛ والفضل الزيادة، وهو فيض من أنوار الحضرة يغمرُ الطالبَ لذةً روحانيةً. فليجعل المريد ما يرى ويشعر يدورُ في باطنه ويتغذى به سرُّهُ، ليحصلَ التمكين، ولذا قلت: فأُضمرُ في سرِّي مفاتن حسنها؛ وهو ما يراه من أنوار الحضرة بعين الخيال، ثم ينزل به إلى القلب تريضًا "وأنقشها في القلب في موضع الوصلِ"، ولا يُحّدِّثُ النَّاسَ بمشاهداتِهِ حذراً من التشتت، "وأكتم سري عن وشاتي"، وليعلَم أنَّ نَظَرَ أكثرِ الخلقِ لمثلِ هذا يتردد بين الإنكارِ والحَسَدِ، وبالكتمِ تتمكن صورة المحبوب في القلب، وهو قولي: "لعلها تباشر صورتها"، فإذا رأي المحبوب انطباع صورته في قلب محبه تعطّف عليه بفيض العطا "وأكتم عن أهلي"،  لِمَا في البوح من ضَرَرٍ أقَلُّهُ تَمُكُّن آفة حب الظهور من نفس الطالب.

 فإنْ حَفَظَ الطَّالِبُ سِرَّهُ جَادَتْ ذَاتُ مَحْبُوبِهِ عَلَيهِ، "فتختم ما تخشى عليه بختمها"، والختْمُ يحفظ ما خُتمَ بِه كما قيل: احفظ الله يحفظك، وهذا ختم العموم. أما مِن حيثُ الخصوص، فما زالَ الطَّالِبُ يَتَرَقَّى مِنَ اسْتِحْضَارِ كَوْنِهِ بَيْنَ يَدَي شيخِهِ حيثُ يتلَقَّى الإلهامات، إلى استحضار أنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حضرة ذكر ربه تعالى، فلا يزال الطالب يُسَلِّمُ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى تسكن نفسُهُ، فيختم الله على قلبه بختم نبوة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وصورة نقشه " توجّه حيث شيئت فإنك منصور"، فإذا اطمأن قلبه توجه إلى ربه بالتحيات والصلوات المباركات بروحِهِ، فيَتَّسِعُ سِرُّهُ لِخَتْمِهِ تعالى المخصوص بخاصة عبادِهِ؛ وصورة نقشه "افعل ما شئت فإنك ملحوظٌ محفوظ. ولا زالت الأسرار تترى عليه مما وراء طور العقل، ولذا قال الفقير: "وأكتم ما أخشى عليه عن العقلِ"، والله من وراء القصد، لا رب غيره.