في الاتحاد
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريالاتحادُ مُحالٌ في شريعتنا
ما لم يكن بين أكوانٍ وأكوانِ
وشرطُه الفقرُ في ترقيع خرقتنا
وحالُهُ الوصلُ مِن إنساننا الثاني
فهو الذي حازَ تحقيقًا حقيقَتنا
وهو الذي يشهدُ البنيانَ والباني.
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ رسول الله، وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين، وبه؛
فالاتحاد اصطلاحٌ استعمله العلماء كثيرًا، وقد أشار الجرجاني في كتاب التعريفات إلى بعض معاني الاتحاد بقوله: الاتحاد هو تصيير الذاتين واحدةً، ولا يكون إلا في الْعَدَدِ مِنَ الاثنين فصاعدًا، وهو في الجنس يسمى مجانسة، وفي النوع مماثلة، وفي الخاصة مشاكلة، وفي الكيف مشابهة، وفي الكم مساواة، وفي الأطراف مطابقة، وفي الإضافة مناسبة، وفي وضع الأجزاء موازنة، وهو شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي الكل موجود بالحق؛ فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجودًا به معدومًا بنفسه، لا من حيث إن له وجودًا خاصًّا اتحدَ به؛ فإنه محال. وقيل الاتحاد امتزاج الشيئين واختلاطهما حتى يصيرا شيئًا واحدًا لاتصال نهايات الاتحاد. وقيلَ الاتحادُ هو القولُ مِن غير روّيةٍ وفِكر. "انتهى".
وفي هذه المسألة قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الباب التاسع والتسعون وثلاثمائة مِن الفتوحات المكية، وهو منزلٌ "من دخله ضربتُ عُنُقَهُ": وهذا هو منزل الاتحاد الذي ما سلم أحدٌ منه، ولا سيما العلماء بالله الذين علموا الأمر على ما هو عليه، ومع هذا قالوا به؛ فمنهم من قال به عن أمرٍ إلهيٍّ، ومنهم من قال به بما أعطاه الوقت والحال، ومنهم من قال به ولا يعلم أنه قال به، فأحوال الخلق مختلفةٌ فيه، فأما أصحاب النظر العقلي فأحالوه لأنه عندهم يُصَيِّرُ الذاتين ذاتاً واحداً؛ وذلك محال.
ولمَّا تكلَّم في الاتحادِ جماعةٌ مِنَ الصوفية تصور البعض أنه اعتقادٌ من عقائدهم، وهذا خطأٌ عظيم يقع فيه من لا علم له باصطلاحهم، وليس له قدمٌ في سلوكهم وأذواقهم. فالاتحادُ فنٌ مِن فنون السلوك يُنتجُ لصاحبه ذوقاً خاصاً في التوحيد الذي هو اعتقاد كل مسلم.
ولا يكون الاتحاد إلا بالأكوان، وله مراقٍ في معراج التحليل، وقد يسمون هذا المعراج معراج الانسلاخ، وقد يسمونه طرح الجسدِ، كما أشارت إلى ذلك السيدة ست العجم بنت النفيس في شرحها لمشاهد الأسرار، وهذا موضعٌ لا يتسع للتعريف بهذا الفن، فلنوجز في وصفه بما يتضح معه معنى الاتحاد المشار إليه عند من قال به من سادتنا الصوفية، فإن لهم في التجردِ فنونًا وكيفياتٍ تدور في فلك الاستهلاك في الذكر وترك المحسوسات والحس، وهو الفناء عن الأكوان في سبيل الحضور مع المُكوِّن جلَّ شأنه.
وقد يرتقون بالتفكر في آيات الآفاقِ وآيات الأنفُس طلبًا للحق بحسب قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاقِ وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ومنهم من يعمَد إلى المضاهاة الحاصلة بين آيات الآفاقِ وآيات النفس، فيستغرق عقله في مد الرقائق بين حقائق الأكوان ودقائق الإنسان المشابهة لها حتى تصح الموازنة بينه وبين العالَمِ، فيُدرك المرتاض بهذه الرياضة حقائق الخلق بنسبتها للحق من جهة اسم أو أسماء إلهية، فيجد فيض ذلك الاسم أو تلك الأسماء على ما يحاذي به تلك الحقيقة من دقائق كونه الشخصي، فيعلم افتقار كل حقيقة إلى خالقها من وجهٍ محقَقٍ، ويجعلون أول هذا الطريق خلع الصفات المذمومة، ثم خلع التعلقات بالأكوان، وما زال السالك يداوم على هذه الرياضة حتى يرى آيات الحق في الآفاق وفي نفسه، ويعلم ما هو مشترك بينه وبين كل كون، وبما يمتاز كونٌ عن كون، وهكذا يسافر بين الأكوان في مقابلاتٍ غايتها مقابلة حقيقته الجامعة بحقيقة العالَم، وهو الإنسان الكبير، ويتفاوت أهل هذا الفن في مراتب الإدراك بحسب تجردهم عن الأكوان وخلعهم لمظاهرها، وكذا بحسب مراتبهم في الجمعية.
ومتى تعرى صاحب هذا الفن من المظاهر الكونية التي كسته، وجاوز النظر من مظاهر العالم إلى حقيقته، قابل العالم حقيقة بحقيقة، والحقائق إذا تعرت عما يميزها بعضها عن بعض تعارفت وتآلفت، فسموا ذلك التعارف اتحاداً.
وهو ما أشار الفقير إليه في الأبيات السابقة من كون ما أسموه اتحاداً لا يكون إلا بين كونٍ وكون مما حواه العالم لمناسبة الاشتراك بين الأكوان من جهة المعاني مع امتياز الذوات كما قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه أنه محال، فإن الذاتين لا يصيرا ذاتًا واحدً أبدًا، ولا اتحاد بين العبد والرب من أي وجه، فهو تعالى الذي ليس كمثله شيء، كما أنَّهُ لا اتحاد بين حقيقة أي عبدٍ وحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي حقيقة الحقائق، إذ هي مما وراء العالَم بما هو مخلوق يبلى.
ثم إن المضاهاة المشار إليها تستلزم من العبد تصور الكون الذي يمد اليه رقيقة الاستمداد، ثم يتجرد العبد عن تصوره فيتحد بحقيقة ذلك الكون. وحقيقته صلى الله عليه وسلم وراء طور العقول وتصوراتها، بل إن مدارك أكابر العارفين تطأطأ الرأس على أعتابها، فلا يتصور واهِمٌ أن تبلغ مبالغ القائلين بالاتحاد غير اتحادهم بحقيقة الإنسان الكبير الذي هو العالَم، وهو اتحادٌ شعوريٌ ما يلبث العبد أن يستشعره حتى يفنى عن حسه، ويتجرد من وصفه، فمنهم من يخلع الحق عليه من خلع الأسماء والصفات الحقية بقدر ما يخلع ذلك العبد عن نفسه من الأكوان وأسمائها وصفاتها، وقد قلت في ذلك شعرًا:
للاتحادُ سلوكٌ وهو مذهبنا
ومبدأ القومِ تصديقٌ وإحسانُ
فيشهدُ المرؤُ كلَّ الكونِ مفتقرًا
إلى الكمالِ، وفوق الكلِّ رحمنُ
فإن تقلّب في الآفاق ناظرهُ
وأُشهدَ النفسَ فالألوانُ أوزانُ
فيعلمُ الشيءَ تقديرًا بنسبتهِ
لغيره؛ وهو للتحقيقِ ظمآنُ
فيخلع الكونَ بالتجريد معترفًا
بوزره؛ إنَّ حملَ الكونِ خُسرانُ
فإن تجرّدَ أبدى ما حقيقته
لحقّه، ثم إنَّ الأمرَ وجدانُ.
فهذا معنى الاتحاد الذي قال به أهل هذا الطريق واصطلحوا عليه، ولا مشاحة في الاصطلاح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خصلتان من كانتا فيه لم يفته من الخير شيءٌ؛ حُسن الظنِّ بالله، وحُسن الظن بعبادِ الله، وخصلتان من كانتا فيه لم يفته من الشر شيء؛ سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.
فلا يظننن ظانٌ أنهم قصدوا أن يتحد العبدُ بالربِّ، أو المخلوق بالخالقِ، فإن ذلك مذهب بعض من ألحدَ بالله من الفلاسفة الذين توهموا أن الله هو العالم، أو أنه حلَّ في العالم، فإن هؤلاء ممن صدّق قول الشيخ الأكبر فيهم حيث قال: من قال بالحلول فدينه معلول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، والله تعالى واحدٌ بالإجماع، ومقامُ الواحدِ يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد في شيء، ولو صَحَّ أن يرقى الإنسانُ عن إنسانيته، والمَلَكُ عن مَلَكِيَّتِهِ، ويتحدَ بخالقِهِ تعالى لصحَّ انقلابُ الحقائق، وخَرجَ الإلهُ عن كونهِ إلهًا، وصارَ الحّقُّ خَلْقًا، والخَلْقُ حَقًّا. انتهى كلام محيي الدين بنَصِّهِ فرضي الله عنه ونفعنا بهذا البيان، والله من وراء القصد، لا رب غيره.