السنة الثانية ربيع الأنور 1444 هـ - أكتوبر 2022 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
في التجلي
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

علمُ التجلي علومٌ كَمْ أشرتُ لها

وهي الشهودُ بعينِ القلبِ لا البصَرِ

ولا شهود بغير النورِ تدركهُ

بالنورِ منكَ كما قد جاء في الخبَرِ

وظُلمةُ الغيبِ نورٌ ليس ينكشِفُ

إلا بما قلتُ فانظرْ فيهِ واعتبِرِ

عِلمُ التجلي دقيقٌ لا يُشاكِلهُ

عِلمٌ فتُدركهُ بالظَّنِ والفِكَرِ

فلا تسل عنه لا ينبيك مُدَّكِرُ

إلا على النورِ والأنوارِ والأثَرِ

التجلي لغةً الظهور، وهو في اصطلاح القوم عبارة عمَّا ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، هكذا قاله الشيخ الأكبر رضي الله عنه، فالتجلي إذًا ظهورٌ لِما غاب عن غير أصحاب القلوب والبصائر، وحصول التجلي في ثلاث:

الأول: مُتجلَّى له وهو المُشاهِدُ.

والثاني: ومجلى وهو المحَلُّ.

والثالث: مُتجلِّي وهو الغيبُ المُعَيَّنُ.

 وهو على مراتب؛ أعني ما يتجلى للمُشاهد من الغيوب متى سلمت عين بصيرته من العلل المانعة من الشهود كالعمى والرمد للعين، والصدأ والران وغير ذلك من حُجُبِ القلوب. واعلم أن الله قد جعل لكلِّ شيءٍ نورًا وإن خفت الأنوار، كما هو الحال في الأجسام الكثيفة، فيسميها من لم ير فيها نورَ الوجودِ أجسامًا مُظلمةً، ولا يشعر أنه قد عَمِي عن إدراك ذلك النور ولم يلمح أنوار أرواحها أيضًا، وكذلك تَخفى عن أكثر الخلق الملائكةُ والأرواحُ ذوات الصور النورانية اللطيفة، وكذا الذوات النارية تخفى مع كونها عنصرية الصورة، ومن الناس من يخفى عنه نوره، ومن هنا ينكر حصول التجلي.

وكما أن الأجسام الكثيفةَ لا تُرى إلا بتقابل نورين: نور عين الناظر، ونورها المنعكس بالخاصيةِ، كذلك الحال في جلاء الغيوبِ، لا يحصل إلا بسلامة عين بصيرة القلب المُتَّقِدُ نورها، وإشراق نور الغيب المعين متى تجلَّى، وهو على مراتبٍ كما أشَرْتُ من قبل، وأبيَّنه لِما تسبقُ إليه بعض الأوهام من أنَّ قصد العارف بالتجلي إنما هو تجلي الحق تعالى، فيحصر صاحب الوهم مقاصد العارفين متى تكلموا عما تجلى لهم، فيما سبق إليه وهمه، فلا يري ما أشاروا إليه مما يصح أن يُحمل على ما ينبغي للحق تعالى وتقدَّس، فيلقي عليهم التُهم لجهله بمراتب التجلي، وما علِمَ حقيقة ما تكلموا فيه مما تجلى لهم من أنوار الغيوب.

ثُمَّ نرجع إلى الأنوارِ التي وعدنا بتبينها مما نص عليه الشيخ الأكبر في الفتوحات، وهي على سبع مراتب:

 أنوار المعاني المجردة عن المواد، وتسمى أنوار المعارف والأسرار، وهي مما لا يُتصور في الخيال، لكونه ليس له صورة أصلًا، وتجليه عبارة عن أن يعقله المكتشف بلا لَبسٍ، ولا يعقله إلا من ورث حظًا وافرًا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم اجعلني نورا».

ومن الأنوارِ أنوار السُّبُحات، وهي الأنوار الكاشفة لأعيان الممكنات، فتفنى شخوص الممكنات وتتجلى أعيانها الثابتة، ولا يصح هذا التجلي إلا لأهل التمكين من أصحاب المشاهدة والوجود، وهم الخلفاء والله أعلم.

ومنها أنوار الأرواح من الملائكةِ والرسلِ والعقول المفارقة، وهذه الأنوار المتنزلة من حقيقة الحقائق تتلقى أشعتها قلوبُ العارفين فيتجلىٍ لهم ما شاء الله تعالـى من العلم المضنون به على غير أهله.

ومنها ما اصطلحوا على تسميته بأنوارِ الرياح، وهي الأنوار العنصرية التي ما خفيت إلا لشدة ظهورها، ومنها أنوار الطبيعة وتكشف لصاحبها ما تعطيه الطبيعة من الصور في الهباء وهو الهيولى، وفي الجسم الكلي الذي هو جسم العالَم، وهذا التجلي لا يحصل لأي أحدٍ على الكمالِ كما قال رضي الله عنه، لكونها إذا حصلت للعارف على كمالها تعلَّقَ علمُه بما لا يتناهى، وهذا محال.

ومن الأنوار أنوار الأسماء الحقية والخلقية، فكما أن الاسم يدل على مسماه، فكذلك أنوار الاسم تكشف للمشاهد حقيقة المسمى، وهذا العلم لسيدنا آدم عليه السلام.

ثم إن العارف له من هذه الأنوار أنوارٌ يسعى بها لا يسع المقام لتفصيلها، وإنما بينت ما يفتح للطالب أبواب معرفة التجلي، فمن أراد الله به خيرًا وفقه للعمل بما علم، وأورثه علم ما لم يكن يعلم، والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل.