السنة الثالثة ربيع الأنور 1445 هـ - أكتوبر 2023 م


باهر دويدار
حكاية تائه (1)
باهر دويدار

كانت ليلة إتمامي عامي الخمسين ... وبينما أنا جالس على سجادتي أختم صلاة العشاء تعلقت عيناي بمسبحتي التى أصبحت مؤخرًا لا تكاد تفارقني، وابتسمت لها كأني أحدثها عما يدور فى ذهني .. مرت بي ذكرى مولدي العشرين الصاخبة الماجنة .. وذكرى مولدي الثلاثين المزدحمة بالشباب والفتيات في أحد أماكن السهر .. ثم ذكرى مولدي الأربعين وما صاحبها من رفض لتقَبل فكرة أني كبرت واصطدامي بقوله تعالى : (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ).. ثم فشلي الذريع في التحقق بما ورد فيه لاحقًا .. وهأنذا بعد عقد آخر أقف متأملًا ما مر من حياتي محاولًا فهمه باحثًا عن نقطة بداية لتلك الرحلة.. تذكرت جدتي لأبي ( بدوية ) تلك العجوز الريفية الأمية التى كانت لا تقرأ ولا تكتب .. كنت فى السابق لا أذكر لها إلا طبعها الحاسم الحاد .. إيقاظها لي مبكرًا صارخة في : ( قوم احنا بقينا الضحى ) بينما أنا طفل في السابعة لا أفهم معنى الضحى ولا أستطيع أن أستوعب ما الجُرم في النوم ( رغم أننا بقينا الضحى ) ... أتذكر صراخها فيَّ وضربها لي على ظهري وأن أبكي رافضًا الاستحمام .. أما الآن فإني أنظر إلى مسبحتي، وأتذكر مسبحة جدتي الزرقاء الداكنة التي كانت لا تفارقها كأنها ولدت بها، وكأنها جزء لا يتجزأ من جسدها النحيل يصحبها طوال حياتها وسيرافقها إلى قبرها وربما تُبعث ممسكة بها .

  أتذكر جدتي بدوية في لقطات متسارعة .. استيقاظها يوميًّا قبل الفجر بساعتين للصلاة .. دعواتها الثابتة المرتبة بنفس الترتيب في كل ليلة لكل أفراد عائلتيها الصغيرة والكبيرة .. وضوؤها بالماء الشديد البرودة في ليالي الشتاء القارس حتى فى آخر أيام عمرها الطويل .. أتذكر حيرتي من قدرتها على رفع رجلها على الحوض المرتفع جدًّا في سنها الذي تعدى التسعين رغم عدم قدرتها على السير إلا بصعوبة ..

   مرت بخاطري سنواتها الأخيرة التى أصيبت فيها بالخرف الذي يصيب كبار السن .. أتذكرها وهي تصلي الظهر ما يقرب من العشر مرات لأنها لا تذكر أنها صلت وأتذكرها وهي تختم الصلاة في كل مرة .. تعبر بذاكرتي كلمات أبي عنها وهو يصفها بأنها من أهل الله، وأن سرها هو الصبر على موت زوجها وابنها الأكبر شبابًا ( في حجرها ) حسب تعبيره.. تنساب ذكرياتي عابرة إلى أبي الذي عانى اليتم وهو طفل رضيع فما كان منه إلا أن حاول أن يكون الأب الذي تمناه لنفسه فكان أحن وأطيب وأرق أب يمكن تصوره .

   يخالطني بعض اللوم والعتاب لأبي الذي لم يضغط علي في الصغر للصلاة كما لم يضغط علي في غيرها مما جعلني أتأخر جدًّا في الالتزام بالصلاة لاحقًا رغم أن أبي كان من المحافظين على الصلاة والنوافل ورغم أني بدأت الصوم فى سن صغيرة فلم أقصر فى شيء من العبادات إلا الصلاة.

   ولكني أتذكر ما تعلمته من أبي بالفعل لا بالقول من مساعدة الناس صغيرًا وكبيرًا ومسامحتهم على الخطأ المقصود وغير المقصود ..

   تذكرتُ حرص أبي على الرزق الحلال مهما كانت الضغوط، وتذكرتُ تواضعه الجم الصادق التلقائي رغم أنه كان من أعلام بلدته المحبوبين المعروفين .. تذكرت كلمته الشهيرة كلما اندهش المحيطون به من قدرته على الإحسان لمن أساء إليه: ( احنا بنعامل ربنا ما بنعاملش الناس ).

   كما تذكرتُ يقينه بأنه يختزن كل ذلك عند الله لي ولإخوتي فى المستقبل .. أتذكر مرارة وفاة أبي المفاجئة وهو لم يجاوز عامه السادس والخمسين تاركًا لنا الله ورسوله ومعاشه من وظيفته الحكومية وحسب ..

   أتذكر جنازته المهيبة التي حضرها الآلاف كما أتذكر ( بكر ) ذلك الرجل الذي اعتاد والدي مساعدته بالمال والملابس القديمة له ولأسرته ... أتذكر سعادتي أنا وإخوتي في جمع ما لدينا من ملابس لا نحتاجها لعم بكر في حالة من الاحتفال والسعادة كأنه يوم عيد، ثم أتذكر زيارة بكر لي بعد وفاة والدي بأسبوعين ليبشرني أنه رأى أبي في المنام على باب الجنة يقرأ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55 )) فما كان من باب الجنة إلا أن فُتح  وخرجت منه الملائكة لتصحبه إلى الداخل ..

  أتذكر شعوري بالغيرة لأن بكرًا رأى أبي بينما ضن أبي عليَّ بتلك الرؤية .. وسؤالي لنفسي في غيظ ( لماذا بكر بالذات ؟؟!! ) .. مر بخاطري ما أغدق الله علي وعلى إخوتي من النعم، وتذكرت ثقة أبي في أن الله سيرد له عمله في أبنائه عملًا بقوله تعالى :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) . . تنساب الذكريات عابرة إلى جدي لأمي ذلك التاجر الثري الذي طالما كان يكرر دائمًا: ( أنا كان عندي قد اللى عندي دلوقت عشر مرات وربنا خده مني فى لحظة وما رجعوش غير لما اعترفت إنه الرزاق وحده ) أتذكر قصة حياته التي سمعتها منه عشرات المرات .. ثراءه الفاحش وهو لم يتجاوز الأربعين وامتلاكه لأكثر من تلاثة أرباع كناتين الجيش المصري آنذاك حتى سمي بملك الكناتين ..

   أتذكر وصفه لنفسه بأنه أصبح مثل قارون يؤمن بأنه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) ثم ضياع الثروة إلى حد أن أصبح يسير هائمًا في الشوارع في انتظار نوم أطفاله ( ومن بينهم أمي )  ليعود إلى البيت لأنه لا يملك ثمن عشاء لهم مرتديًا قبقابًا خشبيًّا في قدمه لأنه لا يملك ثمن الحذاء ..

   أتذكر حديثه عن وقفته ناظرًا إلى السماء محدثًا ربه في صدق وبساطة ( خلاص أنا اتربيت .. بس العيال ما لهمش ذنب ) ثم أتذكر كلماته عن فتح باب الرزق مرة أخرى بعدها على مصراعيه .... يتوقف سيل الذكريات بسؤال .. إذا كان الله قد أنعم علي بكل تلك الروافد للإيمان به والتعرف عليه لماذا تأخرتُ في السير إليه .. ما الذي حجبني عن الله طوال تلك السنوات .. .. ولكن هذا حديث آخر نكمله المرة القادمة إن شاء الله تعالى.