حكاية تائه ( 2 )
باهر دويدار( فى البدء كان الكِبْر ) .. فمنذ نعومة أظافري ابتلاني الله بنعم كثيرة .. كنت طفلًا جميلًا .. أشقرًا .. ذا شعر ذهبي ناعم .. وعينين بلون خضرة الشجر .. طفلًا جديرًا بالرسم فى لوحة فنية .. أنتمي إلى عائلة مرموقة في بلدتنا الصغيرة فى صعيد مصر .. و كان أبي أحد رموز تلك البلدة .. جمع له المولى عز وجل ما بين المكانة العالية والمحبة فى قلوب الناس .. تفتحت عيناي فوجدتني أعيش في بيت على مساحة ألف متر أو يزيد .. كان كل شئ حولي يحمل لي رسالة واحدة: أنت شخص استثنائي .. أنت لست كغيرك .. ما زلت أتذكر حتى الآن تلك الفكرة التي سيطرت عليَّ فى الصغر ولم أصارح بها أحدًا .. أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون من أجلي أنا فقط .. وأن كل ما يحدث له علاقة مباشرة بي .. و إن كل من حولي هم مجرد كومبارسات يشاركون فى صناعة حكايتي أنا .. وكل ما يحدث لهم هو مجرد تمهيد لأشياء سوف تحدث لي .. وضاعف ذلك أنني كنت أول حفيد فى عائلة أمي وأصغر حفيد فى عائلة أبي .. كان كل شئ حولي يستدعي تدليلي .. أما درة التاج فى هذا المضمار فكان ابتلاء المولى عز وجل لي بفتنة الذكاء وقوة الحفظ وسرعة البديهة والتى جعلتني دومًا على رأس المتفوقين فى كل مجالات الدراسة بما في ذلك الأنشطة المدرسية المختلفة .. كنت نجمًا بالوراثة .. وبالعلم .. وبالشكل .. وبالشخصية .. أتذكر اليوم كل ذلك بعين مختلفة .. فلا شك عندي أنني اعتدت منذ نعومة أظافري على وجود كل ما أتمنى قبل أن أتمناه لدرجة جعلتني أفقد القدرة على إدراك نعمة الله علي بل لعلني لا أبالغ إن قلت أنني فى تلك المرحلة لم أر يد الله فى أي من ذلك .. بل اعتبرتها طبيعة الأمور .. كانت نظرتي للحياة تتناسب مع تفوقي الدراسي الذي صنع مني شخصية لا تثق إلا فى العلم والمنطق المجردين وتتعامل مع الحياة بمنطق المعادلات الرياضية .. مقدمات تؤدي بالضرورة إلى نهايات وأسباب حتمًا ستسفر عن نتائج فغابت عن ذهني الصغير كل مفاهيم القضاء والقدر وقيومية الله فى الكون .. وتملكتني فكرة أني فاعل وأني قادر وأني مدبر .. ولعل فتنتي الكبرى كانت فى نجاح ذلك على طول الخط .. كل ما أصبو إليه أنجح فى الوصول إليه كما أريد .. كل ما أدبره وأخطط له يحدث وكما تم التخطيط له تمامًا .. أحمد الله أني لم أنكر وجود الله يومًا ما .. بل لم أشك فى ذلك نهائيًّا .. ولكنني كنت عبدًا يشعر بداخله أنه رب ولكنه يخجل أن يصارح نفسه أو يصارح غيره بهذا الشعور.
أسفر ذلك عن علاقة متذبذبة بيني وبين الله خاصة في العبادات .. فحينا أحافظ عليها بشكل مبالغ فيه .. وأحيانا أتركها ولا أبالي خاصة الصلاة .. لا أذكر أني أفطرت يومًا فى رمضان ولكني أذكر حرصي على النوم معظم اليوم حتى يمر .. منذ صغري اعتدت العطاء للمحتاج كعادة أهلي ولكن ظل دائمًا هناك حاجز بيني وبين الإحساس بالطاعة ربما لأنها كانت عادة أكثر منها عبادة .. ولعل اصطدامي بالتيارات الدينية المنتشرة آنذاك من متسلفة وإخوان قد عمَّق هذا الشرخ الفكري بيني وبين الدين ولم يكن آنذاك صوت غير تلك الأصوات على حد علمي، والتى بالطبع لم تعجبني ولم ترق لي ولم تنجح فى إقناعي أو لفت انتباهي، فكانت النتيجة البعد التام عن الأمر برمته وظل الدين شأنًا داخليًّا بيني وبين الله، أتأرجح فيه ذهابًا و إيابًا بمعزل عن كل الناس .. ولكنني أذكر موقفًا معينًا ما زال له عظيم الأثر فى نفسي حتى الآن .. كنت فى المرحلة الإعدادية وكان خالي قد أهدى ابنه الأكبر بندقية رش تستعمل فى صيد الطيور ودعاني ابن خالي لاستخدامها وكان أن أصبت عصفورة فى جناحها فرأيتها وهي تهوي وسط الأشجار إلى أن اختفت .. ما زلت حتى الآن أذكر هذا الإحساس بالفزع والندم الشديد إثر ما حدث .. ما زلت أذكر لهفتي وأنا أفتش عن العصفور وسط الشجر فى إحساس شديد بالذنب تجاهه وفشلي فى العثور عليه .. ما زلت أتذكر الفكرة التي سيطرت علي حينها تجاه ما فعلته بهذا الكائن المسكين فلا أنا تركته يحيا فى سلام ولا أنا خلصته من حياته بل أصبته إصابة تعجزه عن العيش، وتركته يموت بشكل بطيء ومؤلم وبشع .. هكذا رأيت الأمر وفشلت فى إصلاحه وتملكني إحساس عنيف بالندم ولا أدري ماذا أفعل .. عندها لم أجد حلًّا غير أني توضأت وصليت ركعتين استغفارًا واعتذرًا لله بكيت فيهما بحرقة شديدة واعتذرت وندمت .. عندما أفكر فى معنى كلمة الفطرة يتداعى إلي هذا الموقف دائمًا .. فحينها لجأت إلى ربي المسئول عني ورب العصفور المسئول عنه لم أجد ملجئًا آخرَ .. لم أجد أحدًا أعترف له بجرمي وأطلب الصفح منه وأسأله أن يعين العصفور المسكين ويلطف به إلا الله .. وظلت تلك هي علاقتي بالله لسنوات بعدها وتلك هي حدود معرفتي به وفهمي عنه .. وظل حجاب التدبير وعبادة الأسباب يمنعاني عن السير إلى أبعد من ذلك إلى أن أراد الله أن يلقنني درسًا بل دروسًا أنارت بصيرتي وأصلحت بوصلتي فى هذا الشأن ولكن لذلك حديث آخر … (يتبع)