
حكاية تائه (3)
باهر دويدارتعلمت فلسفة الرزق من سائقي التاكسي، كنت آنذاك طالبًا فى كلية الطب وأسكن بعيدًا عن الكلية وأتوجه صباح كل يوم إليها بسيارات الأجرة ( التاكسي ) .. كانت طاقات الفن وحب الحكايات قد بدأت تتفجر بداخلي وكنت أتعامل مع كل حدث يمر بي بنوع من التحليل والتأمل .. وفي تلك الفترة فى منتصف التسعينيات من القرن الماضي كان العثور على تاكسي شاغر فى توقيت الصباح شيئًا صعبًا .. وكنت قد اعتدت الوقوف بحثًا عن تاكسي فى بقعة محددة تخيرتها على أساس دراستي الميدانية المستفيضة للمكان .. أقف منتظرًا مرور تاكسي لأشير إليه وخلال تلك العملية المتكررة يوميًّا بدأت أنتبه لبعض التفاصيل .. مثلًا تاكسي قادم يقترب مني ومن خلفه تاكسي آخر يسرع حتى يتخطاه ويفوز بالزبون الواقف فى الشارع الذي هو أنا .. فأغضب من تصرفه وأقرر ألا أشير له عقابًا له على محاولته تخطي حق زميله ولكنني أفاجأ بعد ذلك أن التاكسي الآخر الذي ضحيت لأجله يرفض أن يقوم بتوصيلي وأقف منتظرًا ما بين الندم على ما فعلت والتفكير فى آليه حدوث الأمر .. كنت آنذاك ما زلت أرى فى نفسي صفة الفاعل .. الرازق الذي سيعطي .. المتميز بالعدل فى توزيع ما سيعطيه .. ولكن الله مرة بعد مرة كان يثبت لي خطأ تلك الفرضية بمثل تلك النتائج إلى أن استسلمت لفكرة أنني لست الفاعل الحقيقي وبدأت أقتنع أنني أقف فى هذا المكان يوميًّا فى انتظار صاحب الرزق المكتوب لأعطيه ما كتبه الله له .. وتطور الأمر إلى أن وصلت إلى أنني كنت أدعو الله أن يبعث لي صاحب الرزق سريعًا حتى لا أتأخر على كليتي .. ثم تطور الأمر أكثر وأكثر إلى أنني من كثرة انشغالي بالأمر كنت أناقشه مع كل سائق تاكسي أركب معه وكانوا جزاهم الله خيرًا يدعمون الفكرة بداخلي بشتى حكاياتهم الغريبة عن الرزق وكيف يصل إليهم .. وأذكر أنني فى حديث مع أحدهم قلت له رزقكم مبعثر فى الشوارع لا تعرفون مكانه بل تخرجون كالطير عملًا بالأمر الإلهي وتنتظرون ما يبعثه الله لكم .. استغرق التفكير فى رزق سائقي التاكسي فترة ليست بالقصيرة من عمرى .. كنت أتأمله وأحلله وأخرج منه بأفكار وثوابت وصلت بي إلى درجة اليقين .. ولكنه كان يقينًا مبتورًا .. فالنفس والشيطان لم يعجبهما ما وصلت إليه من التسليم فى قضية الرزق وعندما يأسا من تشكيكي فيما وصلت إليه لجأا إلى حل آخر وهو استثنائي من تلك الحقيقة التي وصلت إليها فكأنما كل الناس يرزقون بتلك الطريقة إلا أنا .. الكل يرزق هكذا أما أنا ( إنما أوتيته على علم عندي ) يبدو لي اليوم جليًّا هشاشة تلك النفس وسهولة الضحك عليها والتلاعب بها إذ كيف يتخيل إنسان عاقل أنه استثناء لسنة إلهية ولكن هذا ما حدث لفترة أراد الله بعدها أن يمن عليَّ بالتخلص من هذا اليقين الزائف بالاستثناء فبدأت مرحلة التنوير التى كانت أغرب ما مر بي فى حياتي كلها .. سنوات طويلة من حياتي أسعى فيها وأفكر وأدبر وأصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النتائج ثم فجأة وبدون سابق إنذار وبدون سبب منطقي ينهار كل شيء وأنهار معه وألجأ إلى الله جزعًا فيرزقني أضعاف ما سعيت عليه من حيث لا أدري ولا أحتسب .. تأخذني العزة بالإثم بعدها وأعود إلى حالة ( إنما أوتيته على علم عندي ) فيتركني إلى أن أصل إلى مشارف تحقيق ما خططته وسعيت إليه ثم ينهار كل شيء فألجأ إليه فيرزقني فوق ما أتمنى من حيث لا أدرى ولا أحتسب .. وهكذا تكرر الأمر مرارًا وتَكرارًا إلى أن وعيت الدرس وأصبح لدي يقين راسخ يشابه يقين جدي الذي كان يكلمني به فى طفولتي أن الله هو الرزاق وحده لا شريك له .. يرزق بالأسباب وبغير الأسباب وبعكس الأسباب ..
محطتان مررت بهما لاحقًا كان لهما أكبر الأثر فى فهمي لتلك المعضلة .. الأولى كانت بعد تخرجي بقليل وكنت قد خسرت كل الوظائف التى أعمل بها وأصبحت عاطلًا عن العمل كله ما أملكه من حطام الدنيا مائة وخمسون جنيهًا ولست أعلم ماذا يحمل الغد لي .. وإذا بمكالمة من شركة بترول كنت قد تركت السيرة الذاتية الخاصة بي عندهم منذ أكثر من سنة تسألني عن إذا كان لدي الاستعداد للعمل على حفار بترول فى عرض البحر بدءًا من اليوم التالي مباشرة نظرًا لفراغ مكان عليه والحاجة إلى إسناده لشخص فورًا وبالفعل تسلمت العمل بأسهل ما يمكن تصوره من إجراءات وانتويت أن أتبرع بجزء من أول راتب شكرًا لله .. وخلال عملي على الحفار فوجئت أنهم يقومون بعمل قرعة على جوائز مهداة من الشركة من خلال تذاكر يدفع ثمنها تبرعًا لمستشفى الأطفال فرأيت في ذلك فرصة للإسراع بالتبرع دون انتظار المرتب واشتريت بكل ما أملك حينها ( المائة وخمسون جنيهًا ) تذاكر فى تلك المسابقة ولم أحضر السحب الذي تم إجراؤه لأنني اعتبرت الأمر صدقة أو نذرًا أوفيه .. ولكننى فوجئت بالكل يبحث عني على الحفار لأن التذاكر التي اشتريتها فازت بمعظم الجوائز وعدت من تلك الرحلة بهدايا تساوي أضعاف أضعاف ما دفعت
أما الموقف الثاني فكان بعد امتهاني لمهنة الكتابة وكنت أمر بإحدى الضائقات المالية المعتادة فى حياتي وفوجئت بمكالمة من شخص لا أعرفه يخبرني أنه المسئول عن برنامج أحد الدعاة المشهورين وأنهم بصدد عمل فقرة درامية فى البرنامج وقد وقع اختيارهم عليَّ لتنفيذ الأمر .. وما بين دهشتي من اختيارهم لشخص مثلي ( وأنا حينئذ أبعد ما أكون عن الوصف بالتدين أو الالتزام أو ما شابه ) وبين فرحتي بفرج الله الذي أتى فى حينه. تمت المقابلة والاتفاق وفوجئت أنهم يعرضون عليَّ مبلغًا زهيدًا لا يصل حتى إلى رُبع ما كنت أتوقعه .. ورغم ذلك وافقت
ويظل السر الذي لم أكتشفه إلى الآن هي تلك الأموال التى تقاضيتها عن هذا العمل .. كنت أتقاضاها على هيئة أقساط .. أستلمها وأضعها فى درج بجوار باب شقتي وننفق منها أنا وزوجتي إلى أن يأتي فرج الله .. المدهش فى الأمر أننا كنا ننفق منها كما نشاء ثم نتفحصها فنجدها كأنها لم تمس .. شئ عجيب لم اصل لتفسيره حتى الآن .. ظل كل قسط يكفينا تمامًا إلى أن يحين القسط التالي بشكل تعجز كل معادلات الرياضيات عن تفسيره .. وكثيرًا ما يخجل هذا الداعية ( الذي أصبح صديقًا أعتز بصداقته لاحقًا ) أدبًا مع الله عندما أذكره بالأمر وأخبره أنني رأيت البركة عيانًا فى العمل معه
كنت بتَكرار مثل تلك التجارِب أتشبع رويدًا رويدًا بمفاهيم الرزق والبركة والتوكل على الله، ولكن النفس بطبيعتها لم تجد راحتها فى هذا التسليم واختبرني الله تعالى باتساع الرزق عن طريق أشخاص وأعمال محددة واضحة تستطيع أن تربطها بوضوح لأقع من جديد فى فخ السببية وكانت الانتكاسة وأصبح شغلي الشاغل كيفية الحفاظ على تلك الأسباب ورعايتها وأصبحت فتنتي هي تلك الأسباب التي حلَّت بداخلي محل الرزاق الوهاب .. ولكن الله تعالى أنعم عليَّ بنعمة لم أفهمها إلا لاحقًا ... فجأة بدأت تلك الأسباب تنهار أمامي الواحد تلو الآخر .. خسرت الأشخاص واحدًا بعد واحد وانقلبت مساندتهم إلى هجوم وأحيانًا إلى عداء وخيانة .. وأصبحت الأعمال والأفعال تأتي دومًا بنتيجة عكسية وأظلمت الدنيا من حولي وشعرت لأول مرة أنني وحدي تمامًا ليس لي أحد وتشككت فى كل مهاراتي وما أنعم عليَّ الله من نعم وكانت لحظة المكاشفة التي لم تقبل أي نوع من أنواع التدليس ... ليس لك إلا الله ولا فاعل إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ... وأصبحت أخشى الاعتماد على أى شيء وأى أحد لأنني أدركت أن اعتمادي عليهم هو أول خُطوة فى طريق فقدانهم حتى أتربى وأتعلم وأفهم .. وحينما اكتملت الصورة بداخلي أصابني نوع من أنواع الشلل كأنني أخشى أن أفعل أي شيء أو أشعر بأي شيء تجاه أي شيء .. استغرقتني تلك الحالة لبعض الوقت إلى أن هدأ الموج بداخلي وانقشع الضباب وأكملت طريقي فى هدوء وسكينة وارتياح وقد ملأني اليقين بما لا يدع مجالًا للشك أنه ( لا حول ولا قوة إلا بالله ).