
حكاية تائه (4)
باهر دويداركمعظم أبناء جيلي أعتقد أن أكثر ما حرمنا منه على يد مشايخ فترة تكويننا هو إنشاء علاقة بيننا وبين سيدنا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وربما لا أكون متجنيًا حين أدعي أن أحد أكبر مشكلاتنا في تلك المرحلة كانت الاهتمام بالفقه والأحكام بشكل مبالغ فيه على حساب العقيدة والسيرة التى تحولت لمجرد نصوص جامدة لاستنباط الأحكام في حين أننا كنا في أشد الحاجة إلى التعامل معها كمنهج حياة وحكاية تُروى ومواقف تُسرَد وسلوك يُوضع كنبراس هادي وسبيل لمعرفة سيدنا النبي صلى عليه و آله وسلم معرفة توصلنا إلى حبه والاقتداء به.
هل أحببتُ سيدنا النبي صلى الله عليه و آله وسلم منذ طفولتي؟؟ أظنني فعلت .. و لكنه كان حبًّا أعرج .. حبًا من وراء حجاب .. كأن جدارًا قد بُني ما بينك و بين من تحب كي لا تراه ولا تتعلق به.
في عام 2006 كنت قد تزوجت منذ بضعة أشهر ومن أجل ذلك التزمت بمجموعة من الأقساط والجمعيات مثلي مثل باقي أبناء جيلي .. وأثناء عملي بالمستشفى فوجئت بزوجتي تهاتفني وتسألني عن رأيي فى الذهاب إلى العمرة .. كان السؤال بالنسبة لي مفاجئًا ومباغتًا ومستنكرًا .. إذ كيف تفكر تلك المرأة فى أمر كهذا فى خضم ما نعانيه من ضائقة مالية؟ .. تحسست كلماتي وألمحت لها عن وجهة نظري، فتجاهلت الأمر مؤكدة أن لديها حلًّا ولكنها ترغب فى سماع رأيي في الفكرة نفسها .. تهربت بكلمات لطيفة هادفًا إلى إرجاء الأمر بينما تعاملت هي مع ذلك على أنه موافقة .. و في نفس اليوم عند عودتي إلى المنزل فوجئت بها وبأبيها وقد أحضروا الاستمارات الخاصة بالعمرة طالبين مني ملأها فأسقط في يدي ولم أجد مهربًا من الأمر .. و أذكر أن حمايا يومها نصحني باسمًا ألا أحمل هم النقود مؤكدًا لي أن الله يخلف أموال الحج والعمرة وزواج البنات وأنه شخصيًّا مثال حيٌّ على ذلك، إذ إنه بارك الله لنا فى عمره ذهب إلى العمرة أكثر من عشر مرات على الأقل.
وهكذا ذهبتُ إلى العمرة للمرة الأولى مرغمًا مورطًا .. وكنت بحكم خلفيتي الثقافية والسياسية معجونًا بتلك الأفكار اليسارية التي ترى في العمرة وتَكرارها تضييعًا للأموال والفقراء أحق بها وأعتبرها نوعًا من أنواع الوجاهة الاجتماعية إلى آخر تلك القائمة من التُّهم المُعَلَّبَة التى يسوقها أبناء الفكر اليساري من المثقفين تجاه العمرة.
و طوال فترة الاستعداد للعمرة لم أشعر بأي شيء سوى إحساس المُرغم على شيء لا يقتنع به .. حتى وصلنا إلى مطار جُدة ووجدنا هناك أتوبيسًا ينتظرنا ليحملنا إلى المدينة المنورة أولًا حيث كان مطار المدينة آنذاك لا يعمل ... ومن هنا بدأ التحول الدرامي لرحلتي كلها .. في الطريق من جدة إلى المدينة أدار سائق الحافلة جزاه الله عني خيرًا شريط كاسيت لداعية مصري شهير جدًا آنذاك يتكلم فيه عن الحج والعمرة .. وكنت ممن يحملون موقفًا معاديًا لهذا الداعية بل كنت من أشد المستفزين من قدرته على التأثير في أبناء جيلي والجيل الأصغر ولكنني وجدت نفسي أسمعه بل وأعيش معه كل كلمة يقولها عن المدينة، والمسجد النبوي، والروضة الشريفة، وزيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لدرجة غريبة عجيبة غير مبررة .. فجأة وجدتني داخل تلك الحافلة أحترق شوقًا للمرور بتلك التجرِبة التي يحكي عنها.
وما إن وطئت قدماي ثرى المدينة المنورة حتى لجأت إلى المسجد باحثًا عن الروضة التي تعلمت أنها مميزة بسجادها الأخضر .. صليت فيها، وتوجهت لزيارة سيدنا وحلّقت في آفاق لم أكن أتخيل أنها موجودة أصلًا .. ووقعت في غرام المدينة وساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام .. ورغم بُعد المسافة بين الفندق الذي أسكنه و بين الحرم النبوي ورغم أننا كنا فى شهر اغسطس بكل ما فيه من حرارة لا تحتمل .. كانت رحلتي المكوكية ما بين سكني والحرم النبوي لا تتوقف .. أصلي فى الروضة وأزور سيدنا مع كل صلاة وبين الصلوات .. ولست أذكر أنني عايشت هذه الحالة من السعادة والسكينة والهدوء التي عايشتها فى تلك الأيام الخمسة إلى أن حانت ساعة الرحيل وكانت بعد صلاة الظهر مباشرة وتوجهت للسلام على سيدنا عليه الصلاة والسلام، ووداعه ولكنني فوجئت أن الحواجز التى توضع بعد صلاة الظهر لإعداد زيارة النساء قد وضعت .. بدأت أجري في شتى أرجاء المسجد بحثًا عن منفذ للسلام على سيدنا فلم أجد .. وشعرت أنني كالطفل الذي ضاع من أمه في الزحام .. وهداني تفكيري إلى الخروج من المسجد والالتفاف من الخارج ومحاولة الدخول من باب الخروج والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خلسة .. أسرعت بتنفيذ الفكرة حافي القدمين .. ورغم حرارة الأرضية خارج الحرم لدرجة الحرق فإن النار التى كانت تشتعل بقلبي فزعًا من فكرة أنني قد أرحل دون أن أودعه كانت أكثر إيلامًا .. ووصلت إلى باب الخروج ودخلت منه دون أن يمنعني أحد وبدأت أودعه وقد سالت دموعي بشكل لا أذكر أني قد ممرت به من قبل .. لوعة المحب على فراق محبوبه كما لم أجربها من قبل.
رحلت عن المدينة و بقي حبها في قلبي إلى الآن وذهبت إلى مكة .. تجربة من نوع مختلف ... أديت العمرة بقلب يرفرف في المكان وكأن زيارتي لسيدنا كانت خير تهيئة لزيارة بيت الله الحرام .. ولمدة خمسة أيام أديت ست عمرات مختلفة وحملت جنازات لا أذكر عددها وشاهدت المسلمين من كل مكان وأحببتهم دون سبب واضح .. دعوت لأناس لا تربطني بهم إلا علاقات سطحية فقط لأنني تذكرتهم هناك، فعدت لأجد دعواتي لهم قد تحققت .. تعلمت من أحد زملائي المخضرمين في الرحلة الدعاء في الملتزم وأدمنته ثم عدت إلى مصر إنسانًا آخر غير الذي سافر منها ليبدأ شهر رمضان الذي تصادف أن يكون نفس الداعية الذي وجه بوصلتي في الحافلة من جدة إلى المدينة يقدم برنامجًا عن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم .. و لست أذكر أنني استمتعت بسماع شيء كهذا البرنامج في حياتي ..
تبقى لحظة أخرى أحب أن أشارككم إياها .. فبينما أنا أصلي التهجد بعد حوالي شهر من عودتي إذ بالإمام يقرأ سورة التوبة ووصل إلى الآية التي يقول فيها ربنا: (( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم )) فوجئت بدموعي تجري أنهارًا دون أن أشعر بها .. بكاء و نحيب لا يتوقف، لست قادرًا على السيطرة عليه، وشعور عميق بأن هذه الآية قد نزلت فيَّ وحدي دون أي أحد من البشر .. إحساس غريب وجميل؛ المطر الذي يغسل الأشجار والشوارع في الشتاء.
ثم كانت الانتكاسة المعتادة لأنني رغم كل ما مررت به لم أفهم أيًّا منه ولم أستوعبه .. وبقى لي حنيني إلى المدينة الذي لم يتوقف .. وعمراتي المتكررة بعد ذلك التي وصلت إلى تسع مرات بحمد الله وحيرتي ما بين تلك الأمواج المتلاطمة تأخذني يمينًا و يسارًا باحثًا عن شط.
و لكن بقيت لحظتان وبكاءان و شعوران أفتقدهما وأبحث عنهما دون جدوى وأحاول استحضارهما فلا أستطيع فأكتفي باستدعاء ذكراهما على أمل أن ينعم الله علي بمثلهما مرة أخرى .. لحظة وداعي الأول لسيدنا صلى الله عليه وآله وسلم وبكائي حزنًا على فراقه بين يديه .. و لحظة سماعي لآية سورة التوبة في التهجد وكأنها قد نزلت الآن فيَّ … و للحديث بقية.