السنة الرابعة ربيع الأنور 1446 هـ - سبتمبر 2024 م


باهر دويدار
حكاية تائه (5) والأخيرة
باهر دويدار

ظل التخبط هو العنوان الأمثل لحياتي سنوات طويلة .. تغلبني نفسي وتجرفني أمواج الحياة حتى أوشكتُ أن أغرق فيها .. ولكن إحساسي بعدم الارتياح فى تلك الحياة وعدم الانسجام الداخلي معها يؤرقني دائمًا ويمنعني من الاستمتاع بها؛ فأفر سريعًا إلى الله متعلقا بالعبادات بشكل كبير وتشتعل جذوة القرب ثم رويدًا رويدًا تخبو وأعود أدراجي مرة أخري .. تكررت العمرات ولكن مع كل مرة كانت لذة القرب تبدو أقل ومشاعر الروحانية تبدو أكثر خفوتًا إلى أن جاء العام الأهم فى تلك المسيرة عام 2020 أو سنة الكورونا كما يحلو للبعض أن يسميها .. كنت آنذاك مشغولًا بمشروع مهم فى مسيرتي المهنية وحدث أن زادني ذلك قربًا من الله و تعلقًا بالمساجد .. وبدأ التغيير .. فكلما ذهبت إلى المسجد تعلق بصري بأسماء الله الحسنى المكتوبة على الجدران فأتفكر فيها .. بدأت المداومة على أذكار الصباح والمساء .. ثم رزقني الله بمشاهدة شرح أحد مشايخنا الأجلاء لإحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي .. وتعلق قلبي وعقلي بما سمعت وبصاحبيه الكاتب والشارح وبدأت رحلةَ بحث عن كتابات الصوفية؛ فتعلقت أول ما تعلقت بالحِكم العطائية، وبهرتني قدرة سيدي ابن عطاء الله السكندري العجيبة على اختزال أفكار بهذا العمق وتلك السَّعة فى كلمات قليلة للغاية.

ثم استهوتني كتب الصوفية فغصت فيها قارئًا من كل حدب وصوب، وهو ما اكتشفت أنه أضرني أكثر مما أفادني حينئذ .. ثم كانت الخطوة الأكثر تأثيرًا عندما ظهر فى حياتي شخص قلبها رأسًا على عقب .. كان أحد اصدقائي قد منشنني فى صفحته (بتعبير السوشيال ميديا)، لأنه كان قد نشر فيديو يخص العمل الدرامي الذي كنت أعمل عليه فى هذا العام؛ فتأدبًا أضفت الرجل إلى قائمة أصدقائي، وراسلته لأشكره وانقطعت علاقتنا بذلك لشهور، ظهر بعدها فجأة بشكل ودود غريب مريب بالنسبة لي آنذاك،  وتصادف أنني كنتُ مصابًا بكورونا وقتها، وأمضي مرحلة العزل فى غرفتي وحيدًا، فأصبح هذا الشخص مؤنسي في أيام وليالي العزل الطويلة .. كنت قد شاهدت صورته على الفيسبوك بوك ممسكًا بمسبحة خشبية وقعت فى قلبي أول ما رأيتها وخلال محادثاتنا الطويلة على ماسنجر تطرقنا لها ولأشياء كثيرة تخص التصوف وكان أن ألزمني هذا الشخص بورد صلاة على النبي ثلاثة آلاف مرة يوميًّا .. ولما كانت أيام وليالي العزل طويلة فقد تحمست للأمر من منظور قضاء الوقت وأنا حينئذ غير مقتنع بتسعين فى المائة مما يقوله الرجل .. ثم كان أن طلب لقائي واستجبت له متضررًا بعد إلحاح وذهبت للقائه فى توجس شديد .. إذ إن تصرفات الرجل كانت بالنسبة لي حينها شديدة الغرابة ومثيرة للريبة وفي اللقاء أهداني مسبحة جديدة ثم أعطاني المسبحة التي رأيتها معه في الصورة وظلت علاقتنا هكذا نتسامر ونختلف ونلتقي فى بعض النقاط، والرجل يدفعني دفعًا للتمسك بالصلاة على سيدنا رسول الله، وانا أستجيب على مضض إلى أن فتح الله علي وأصبحت أبتكر بعض الصيغ للصلاة على النبي المحبوب وأُشركه معي فيها فيتهلل ويطالبني بالمزيد، ومضيت في هذا الدرب شهورًا إلى أن قررت فجأة الانتقال إلى خطوة أخرى لا أعرف سر رغبتي فيها حينئذ وإلى الآن ... زرت سيدي ابن عطاء و تعلق قلبي بمقامه و زرت خلوة السيدة نفيسة ثم بدأت أدورُ على المقامات المختلفة كلما سمعت أو قرأت عن بعضها، وكان الأمر حينها صعبًا بسبب كورونا والإجراءات الاحترازية .. شيئًا فشيئًا أصبحت معلقًا بتلك الزيارات لا أجد راحتي إلا فيها، ثم تطور الأمر و بدأت فى البحث عن الأحياء من مشايخنا .. بدأت بشارح إحياء علوم الدين الذي كلمتكم عنه وتواصلت معه وقبل مشكورًا استقبالي فى زيارة كان لها عظيم الأثر فى نفسي، امتدت لنحو ثلاثة ساعات رميت فيها ما في جعبتي من أسئلة وحيرة وتساؤلات وامور مختلطة، وكشف لي الرجل مشكورًا معظم ما خالطني من غيوم عدم الفهم وأهداني مسبحته فى لفتة آسرة وتكررت لقاءاتي معه، إلى أن حانت اللحظة المنشودة وألهمني الله تعالى بالرغبة في التواصل مع شيخي وسيدي وقرة عيني وملاذي الذي للمفاجأة رغم عدم معرفته بي مسبقًا رتب لي موعدًا للقاء، قابلني فيه بكل ما يمكن وصفه من احتواء ومحبة ورعاية.

لكنني حتى تلك المرحلة كنت ما أزال أصارع نفسي فى التسليم لما أسمعه عن الشيخ والمريد والطريق وما إلى ذلك من مصطلحات .. ربما كانت الأنا .. ربما كانت ثقافتي اليسارية الهوى .. ربما انغلاق ذهني في تلك المرحلة عن استيعاب الأمر إلى أن جاءت الحاسمة التي استميحكم عذرًا في إبقائها سرًّا ولكن كل ما أستطيع البوح به أنها كانت بالنسبة لي دليلًا قاطعًا لا يقبل الشك في أن هذا هو شيخي وأن ما يقال عن الواردات والرؤى والعلاقة الروحية بين المريد والشيخ وما يربطهما إلى حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كله حقيقة ثابتة لا تقبل الجدال أو كما قالوا (من ذاق عرف .. ومن عرف اغترف).

تبددت سحب الشك وحلت محلها الرغبة العارمة فى الاغتراف ما جعلني أخطئ مرة أخرى بمحاولة القفز فوق درجات الطريق قفزًا فأصبحت كالعطشان الذي يحاول أن يشرب النهر دفعة واحدة .. أظنها النفس أيضا التي تأبى الاستسلام تمامًا وتعاند كي يكون لها دورٌ و تشعر أنها فاعلة .. استغرق مني الأمر حوالي سنتين فى هذا الصراع مع نفسي إلى أن أرهقتني محاولاتي الفاشلة للقفز على سلم الطريق وكأنه سُلم كهربائي وعانيت الأمريْن من التشتت والتخبط إلى أن استسلمت أخيرًا إلى قواعد الطريق كما هي وبدأت سيري رويدًا رويدًا مستمتعًا برحلتي غير مهتم بما ستسفر عنه مسترشدًا بشيخي الذي حل محل والدي رحمة الله عليه، وكان السبب في شفائي من مرارة اليتم.

كانت هذه رحلتي التي قابلت فى نهايتها الكثيرين ممن لم أكن أعرفهم من قبل وجمعنا الطريق فأحببتهم كما لو كانوا أهلًا وإخوة بشكل مدهش بالنسبة لي، خاصة وأنا المعروف منذ نعومة أظافري بالانطواء .. التقيتُ دراويش و دجالين وأحببت أناسًا تفصلني عنهم آلاف الأميال، وأحببت أناسًا ماتوا دون أن أراهم، وكلما سرت خطوة جديدة اكتشفت حجم جهلي وضعفي وقلة حليتي، وكلما خطوت خطوة ازددت حبًّا وإعجابا وانبهارا بشيخي، وكلما خطوت خطوة جديدة ذقت لذة لم أذقها من قبل، ولكنني رغم كل ذلك ما زلت أشعر شعور التائه الذي يبحث عن طريقه غير منشغل بمنتهاه، ولكنه يريد فقط أن يطمئن أنه على الطريق السليم.