السنة الثالثة ذو الحجة 1444 هـ - يونية 2023 م


د. مختار محسن الأزهري
هل "الإلهام" مصدر من مصادر المعرفة؟
د. مختار محسن الأزهري

يعدُّ "الإلهام" من المفاهيم الشرعية التي نزل بها القرآن الكريم، وجاءت في السنة المشرفة على لسان سيد الخلق ﷺ؛ فنجد في القرآن قولَه تعالى:﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[الشمس:8]، وأما السنة ففي الحديث الشريف  : "إن للشيطان لمَة بابن آدم وللملَك لمَة، فأما لمة الشيطان؛ فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملَك؛ فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله؛ فليحمد الله، ومن وجد الأخرى؛ فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، ثم قرأ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ﴾  [البقرة: 268] "([1])

وقد فسَّر كثيرٌ من شراح الحديث "لمَة الملك" بالإلهام؛ كالمناوي في "فيض القدير"([2]) والملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح"([3]) .

وقد عرَّف بعض العلماء كالشريف الجرجاني الإلهام بأنه: "ما وقع في القلب من علم، وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة"  ([4])

ومن هنا وجدَ السادة الصوفية في "الإلهام" مادة جيدة للبحث والنظر والدراسة؛ لما أنهم أهل اتباع لما ورد في نصوص الشرع الشريف، وأهل عمل به، وليسوا أهل ابتداع ولا كسل!  وقبل أن نتعرض لكيفية دراسة الصوفية للإلهام، نُعرج سريعًا على ما قاله علماء الأصول بخصوص الإلهام، حيث تعرض علماء أصول الفقه لمسألة الإلهام؛ من حيث حجيتُه في الدِّلالة على الأحكام، فإن مردَّ علم أصول الفقه إلى سبعة مباحث، أو سبع نظريات أصولية([5])؛ بحسب ما حرَّره شيخنا العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة -حفظه الله- ومن هذه النظريات بل على رأسها نظرية الحجية التي تقرر ما الحجة التي يرجع لها من أجل معرفة الأحكام الشرعية؛ فهل يكون الإلهام حجة في معرفة حكم شرعي؟ أي أن يقال بناء على الإلهام: إن هذا الفعل حلال أو حرام أو مكروه أو مباح كما هي الأحكام التكليفية الخمسة؟

الظاهر من كلام الأصوليين أن الإلهام لا يصلح أن يكون حجة مستقلة على الأحكام الشرعية كما هو الشأن في حجية الكتاب والسنة، وغيرهما من الأدلة الراجعة لهما، ومما استدل به على عدم الاعتداد بالإلهام كدليل مستقل؛ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي، ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله»([6])، قال الإمام أبو المظفر السمعاني في كتابه:"قواطع الأدلة"؛ تعقيبًا على هذا الحديث: "فلم يذكر بعد الكتاب والسنة إلهامَ القلب وإنما ذكر الرجوع إلى النظر والاستدلال"([7])

إذن لم يعتد أئمة الأصول بحجية الإلهام استقلالًا، فالإلهام لا ينتج أحكامًا شرعية، كما هو الشأن في حجية القياس أو الإجماع مثلًا، والمسألة على كل حال مبسوطة في كتب الأصول([8]) بما يمكن لكل باحث أن يطالعه ويظفر بما يروي ظمأه المعرفي!

 لكن ولما كان غرضنا هاهنا بحث المسألة وفق رؤية السادة الصوفية؛ فأقول -وبالله التوفيق-:

لم يخالف السادةُ الصوفية رضي الله عنهم علماءَ الأصول في عدم الاعتداد بالإلهام كبرهان على الأحكام الشرعية، لكنهم أيضًا أعملوه وطبقوه فيما دلت عليه النصوص السابقة التي أوردتها أول المقال؛ حيث جعلوا دلالة الإلهام بما يمكن أن يطلق عليه"دلالة تبعية خاصة"؛ فهي تبعية أي من جهة أنها "تابعة" لما دلت عليه الأدلة الشرعية ابتداء -ولو إجمالًا-، و"خاصة" أي هي تخص من وقع في نفسه ذلك؛ وكما يقال: بالمثال يتضح الحال؛ فلو أن شخصًا وقع في نفسه أن يتصدق أو يصلي ركعتين طلبًا لحل مشكلة وقع فيها، ففرج الله عنه؛  فهذا من جنس الإلهام المعمول به عند السادة الصوفية؛ إذ الصدقةُ والصلاةُ مما حثت عليه النصوص، وأكدت على بركاتهما؛ فلكلِّ عملٍ من أعمال الخير بركة تعود على صاحبها([9])، لكن مقارنة ذلك الخاطر والإلهام لما وقع فيه من مشكلات هو من خلق الله ومن إلهامه الذي يؤكد الصوفية على أهمية أن يراعيه ويسارع بالاستفادة منه؛ يقول الإمام أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب: " فيلقي الملك الإلهام وهو خُطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه، وهذا هو إلهام التقوى والرشد......ثم قال : " فأما خاطر الملك فلا يرد إلا بخير صريح، وبرٍّ محض على كل حال إذا ورد؛ لأن الخداع والحيلة ليس من وصف الملائكة، ولكن قد تنقطع خواطر الملك من القلب إذا اشتدت قسوته ودامت معصيته من المتعبدين، فيخلى بين القلب وبين نوازع العدو اللعين، ويتخلى العدو بهوى النفس؛ فيستحوذ ويقترن بالعبد، نعوذ بالله من إيعاده وعدم خيره وإرشاده." ([10])

إذن بان لنا أن الإلهام كمفهوم شرعي معمول به كنتيجة من نتائج السير والسلوك إلى الله كنوع من التوفيق والمعونة الإلهية على مزيد السير والسلوك إلى الله.

وهو ما سمعناه مرارًا وتَكرارًا من شيخنا إمام الطريقة ومعدن الحقيقة سيدي نور الدين علي جمعة-نفعنا الله بسرِّه- أن مصادر المعرفة عندنا هي الحس والعقل والخبر الصحيح([11]) و يضاف لها؛ الذوق ونعني به التوجه القلبي ومرتبة الإحسان وما يحصل من توفيق للعبد في سيره إلى الله على نحو قول الله تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[الشمس:8] وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت:69] فمن جاهد شاهد؛ فالمقصود هو الله وليس ما يورده الله على قلب السالك من معارف وإلهامات، لكنها منح وعطايا الرب التي  تستوجب الحمد، وتستتبع مزيد الإقبال من العَبد.


[1] رواه الترمذي في سننه،كتاب التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة البقرة، الحديث رقم :3256، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه كذلك النسائي في الكبرى؛ كتاب التفسير باب سورة البقرة ، الحديث رقم: 10985،وابن حبان في صحيحه باب الأدعية؛ الحديث رقم:997.وسيأتي في آخر المقال شرح وافٍ للحديث الشريف للإمام أبي طالب المكي.

[2] فيض القدير للمناوي 2/633 ط.العلمية

[3] مرقاة المفاتيح لملا علي القاري 1/235،ط.العلمية.

[4] التعريفات للجرجاني صـ34

[5] انظر في عرض هذه النظريات كتاب المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية أ.د علي جمعة صـ312 ، ط.دار السلام

[6] رواه أبو داود الحديث باب اجتهاد الرأي في القضاء؛حديث رقم: 3592

[7] قواطع الأدلة في الأصول لأبي المظفر السمعاني 2/ 349،ط.دار الكتب العلمية.

[8] من ذلك: تقويم الأدلة  في أصول الفقه لأبي زيد الدبوسي صـ 392،ط.دار الكتب العلمية، البحر المحيط للزركشي 8/ 113، ط.دار الكتبي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني 2/199، ط.دار الكتاب العربي

[9] لدلالة قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77]

[10] قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي 1/ 215 وما بعدها ط.دار الكتب العلمية، الثانية 2005 م

[11] وهو ما نص عليه أئمة علم الكلام قال الإمام النسفي: "وأسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل" [انظر:شرح العقائد النسفية للتفتازاني صـ15 وما بعدها ط.الكليات الأزهرية]