السنة الثانية ربيع الأنور 1444 هـ - أكتوبر 2022 م


عبد الله الرشيد
أهمية الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسائر إلى الله
عبد الله الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان، على عين نعمة الله، سيِّد الأولين والآخرين، سيدنا محمد رسول الله وآله وعترته الأطهار وأصحابه أجمعين النجوم العدول الكرام والتَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين وبعد … إن فضل وفوائد وبركات الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلومة من الأحاديث والآثار وحصل البيان فيها كما هو معلوم و قد كتب وأُلِّفَ فيها الكثير، فلماذا يؤكد على المريد و السائر إلى الله بمزيد الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟؛ لأمور يؤكد عليها مشايخنا رضي الله عنهم لا بد يدركها  البعض، منها:

الأول: أن السير بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل وأساس في كل طرق ومعارج الارتقاء ومناهج السير إلى الله كلها، ولا يخل ورد ولا طريق منها، والإ فهو غير مكتمل محدود يكون معه المشقة غالباً، وأيضا لا يسلم من لا يستصحبها، من القواطع والأحوال والثقل وغيرها وقد لا يصل ولا يرى ما يدله إلا بعد كد طويل وتحمل وهو مع هذا يكون في أشد الاحتياج  لصحيح الدليل وسلامة المنهج وللمرشد والمربِّ الكامل للوصول، لذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي عين المشارب والمناهج للاستمداد والنور والترقي، لأنها قائمة بنفسها مكملة متممة لغيرها، فالسلوك والسير بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده سير في جميع مناهج السير، لأنها متضمنة مقتضى جميع معاني الإيمان فالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، متضمنة لمعنى شهادة أن محمد رسول الله والتصديق به، وهي تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر ومقتضاها متضمن لمعنى وحقيقة لا إله الا الله ومقتضى ذلك كله متضمن لجميع أركان الإيمان، لذلك اتفق أهل الدين والهدى أنها تقوم مقام شيخ التربية إذا كانت على الوجه الأكمل، في حال فقده وكتب وأشار أهل العلم في الإرشاد إليها لهذا المعنى: هداية ربي عند فقد المربي؛ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها شيخ من لا شيخ له  فمن لزمها وأكثر منها وجد بإذن الله الهداية وتمكين الحقيقة والمدد واستكمال الاستعداد والتأهل للفهم والإدراك الأعمق لتلقي العلوم والمعارف والحقائق ووفقه الله لمن يأخذ بيده من أهل زمانه فهي من أقرب الطرق المقربة المأمونة وأيسرها للوصول إلى الله.

الثاني: لأن المريد و السائر إلى الله في الغالب في أول سيره، لغلبة الأغيار يكون عنده ضعف إدراك معنى العبودية  وحُسنِ التوجه  والقصد، فليس استعداده في تمام الحضور والإخلاص لله الذين بهما يجد السائر تمام الثمرة والمعرفة والمحبة والأدب مع الله، لذلك ينصح ويوصى بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكمل استعداده، فهي مقبولة لا ترد وذكر عن الأئمة الأربعة أنها مقبولة ولو نفاقا.

وقال الفاسي في شرح الدلائل: قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي في شرح الألفية: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجابة على القطع، فإذا اقترن بها السؤال شفعت بفضل الله تعالى فيه فقبل، وهذا المعنى مذكور عن بعض السلف الصالح. واستشكل كلامه هذا الشيخ السنوسي وغيره، ولم يجدوا له مستندا وقالوا: وإن لم يكن له قطع فلا مرية في غلبة الظن وقوة الرجاء ا ه‍.

وذكر في الفصل الأول من دلائل الخيرات: قال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجته فليكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يسأل الله حاجته، وليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما ا ه‍.

قال الفاسي في شرحه: ومن تمام كلام أبي سليمان عند بعضهم: وكل الأعمال فيها المقبول والمردود إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنها مقبولة غير مردودة. وروى الباجي عن ابن عباس: إذا دعوت الله عز وجل فاجعل في دعائك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الصلاة عليه مقبولة، والله سبحانه أكرم من أن يقبل بعضا ويرد بعضا، ثم ذكر نحوه عن الشيخ أبي طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي. وقال العراقي: لم أجده مرفوعا، وإنما هو موقوف على أبي الدرداء. ومن أراد الزيادة على ذلك فليرجع إلى شرح الدلائل. والذي يظهر من ذلك أن المراد بقبولها قطعا أنها لا ترد أصلا مع أن كلمة الشهادة قد ترد فلذا استشكله السنوسي وغيره. والذي ينبغي حمل كلام السلف عليه أنه لما كانت الصلاة دعاء، والدعاء منه المقبول ومنه المردود، وأن الله تعالى قد يجيب السائل بعين ما دعاه وقد يجيبه بغيره لمقتضى حكمته خرجت الصلاة من عموم الدعاء، لأن الله تعالى قال: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾ [الأحزاب: 65]، بلفظ المضارع المفيد للاستمرار التجددي مع الافتتاح بالجملة الاسمية المفيدة للتوكيد، وابتدائها بأن لزيادة التوكيد، وهذا دليل على أنه سبحانه لا يزال مصليا على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم امتن سبحانه على عباده المؤمنين حيث أمرهم بالصلاة أيضا ليحصل لهم بذلك زيادة فضل وشرف، وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغن بصلاة ربه سبحانه وتعالى عليه، فيكون دعاء المؤمن بطلب الصلاة من ربه تعالى مقبولا قطعا: أي مجابا لإخباره سبحانه وتعالى بأنه يصلي عليه. بخلاف سائر أنواع الدعاء وغيره من العبادات، وليس في هذا ما يقتضي أن المؤمن من يثاب عليها أو لا يثاب، بل معناه أن هذا الطلب والدعاء مقبول غير مردود. وأما الثواب فهو مشروط بعدم العوارض كما قدمناه، فعلم أنه لا إشكال في كلام السلف، وأن له سندا قويا وهو: إخباره تعالى الذي لا ريب فيه، فاغتنم هذا التحرير العظيم الذي هو من فيض الفتاح العليم.[1]

الثالث: لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الوسائل الموصلة التي تورث  المعرفة بسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي الباب والمدخل لمعرفة الله سبحانه وتعالى وهو عين المراد والغاية والمقصود الأعظم، وأيضا فإن معرفة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تورث وتمكن محبته التي هي أصل أصول الدين الذي لا يتم الإيمان إلا به كما هو معلوم مثبتُ من كلامه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين.

والناس والسائرون في معرفته عليه الصلاة والسلام الذي هو من أعطم المطالب وإدراك الحقيقة المحمدية على مراتب ومقامات تتفاوت يفوق بعضها البعض، كل على حسب استعداده وقربه وحظه من توفيق الله له لهذا الباب العظيم، فمن الناس من لم يعرف نبيه إلا باللفط ومنهم من عرفه بالصفات والشمائل والمواقف، ومنهم من عرفه بالذات ولايدرك ولا يتصور هذا إلا مع السير إلى الله شهوداً وذوقا. ومن أعظم ما يوصلك إلى هذا بأيسر السبل كثرة الصلاة والسلام على سيدنا محمد، فببركتها وأمدادها وأنوارها تحصل المعرفة ويكمل استعدادك وتورث وترزق المحبة للحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الجالبة لكل فتح وعطاء واقتداء واستقامة ويقين وكل خير من أمر الدين والدنيا.

قال ابن القيم: فإذا رُزِق العبدُ محبةَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،واستولت روحانيته على قلبه، جعله إمامَه ومعلمَه وأستاذَه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيَه ورسولَه وهادياً إليه، فيطالع سيرته ومبادئ أمره وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتَه وأخلاقَه وآدابَه، في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه.ا هـ بتصرف[2]، ولذلك فالإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم يثمر تمكن محبته صلى الله عليه وآله وسلم من القلب، فالتخلق، فالتحقق، وهو مقصود الشريعة من إسلام وإيمان وإحسان.

الرابع: وإكثار المريد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو السبيل المجرب للسائر إلى الله للخروج  من الحيرة والشك وعدم التسليم التي ابتلي بها بعض الناس، التي تحول بين المريد والانتظام في الورد والذكر فببركتها تزول الشبهات المقلقة العميقة الخفية. لذلك نوصي بها كل من أدركته العناية والمحبة ودخل في طريق القوم واعتقاد أهل السنة والجماعة وخاصة ممن تحول من المسلمين عن منهج النابتة من التكفيرين وأشباههم، فقد ابتلوا بالارتياب والشك فلا ينتفعون من مربي ولا ورد في الغالب، وخاصة من تعلم من مشايخهم إلا بإذن الله، فقد وجد مشايخنا من أهل الطريق بإن علاج هذا وزواله وانتظام حال المريد هو  بالإكثار والتركيز في أول سيره بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأن إكثار المريدمن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في أول أمره سبيل لقضاء الحوائج ودفع ما يهم من الأمور والأحوال وذلك أن المريد في أول سيرة تكون نفسه متعلقة بالدنيا وما يشغل من هم الأرزاق وخوف الخلائق، فينصح المريد بأن يضمر في خاطره مطلبه وحاجته رجاء في الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فتقضى بإذن الله، ومع الديمومة يزداد المريد يقيناً وسكينة وحسن توكل على الله، وحسن ظن به وكذلك قد يصيب المريد شيء من الأحول من مثل القبض والحرارة وأحوال الجلال فيصلي المريد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتبرد ويرتاح أو يتزن حاله ويصفى.

 ويكفي في ختام هذه الإشارة أن نذكرك بأن من بركتها التوفيق للعناية الإلهية وللشهود و الوصال والاتصال بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قال سيدي  أحمد بن الصّاوي المالكي الخلوتي من ذاق لذة وصال المصطفى ذاق لذة وصال ربه، ومن فرق بين الوصالين لم يذق للمعرفة طعمًا. فداوم أيها السائر الي الله حتى تمتلئ نفسك وقلبك به وبصفاته ويصير خياله حاضرا معك بين عينين أينما تكون فإن الحب هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعرف الإنسان طعمًا ولا معنى للحياة على الحقيقة  إلا بالحب، وأقول مثل ما قال سيدي ابن الفارض:

فإن شئتَ أن تحيا سعيداً فمُتْ بِهِ *** شهيداً وإلاّ فالغرامُ لهُ أهْل

فمن لم يمُتْ في حُبّه لم يَعِشْ به *** ودون اجتناءِ النّحل ما جنتِ النّحل

 فاللهم صل على حبيبك سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وآله وسلم تسليما.


[1]     حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج1، ص. 560

[2]     مدارج السالكين