السنة الخامسة ربيع الأنور 1447 هـ - سبتمبر 2025 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
حروف الأكوان
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

اعلم أنَّ حروفَ الكونِ كائنةٌ

فَهْي السماءُ وأسماءٌ وأمثالٌ

 وهي المُسمَّى إذا أدرَكتَ مصدَرَها

وهوَ المُسمَّى وعينُ الحرفِ تمثالُ

 والسِّرُّ ذاكَ فإنْ حقَّقْتَ تشهَدُهُ

في لُطفِهِ إذْ خفَى عن فَهْمِ مَن مالوا

 فإنْ سألتَ شفيقًا ذوقَ مشرَبِهِ

فالْهُ عَنِ النَّفْسِ فالأنْفاسُ أحوالُ

 وهي الشئونُ لفَردٍ بان مظهرُهُ

حرفًا وثَمَّ حروفٌ مثلهُ زالوا

 فالحرفُ مجلى فخُذْ مِن شِربنا مَثَلا

للعِلْمِ باللهِ والأسماءِ إذ صَالُوا

 وانظر لحرفٍ ولاسمِ الحرفِ معتبرًا

أسماءَ أسمائه في ذوْقِ من جالوا

 الحمد لله، وبعد

قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 23] فنبَّهنا إلى النظر في عملية النُّطق، وكيف تصدُر الألفاظ عن الناطق، ولا شك أن تفصيل ذلك يحتاج إلى علم كثير، والمقصود في الآية الكريمة النظر في النطق ذاته وهو أعم من الكلام واللغة.

ومما اختص به أكابر علماء المسلمين من أهل التصوف خاصةً الكلام في الحروف، وللشيخ الأكبر كلام عسير المدرك في هذا العلم، لا ينبغي الخوض فيه دون الإلمام ببعض الأصول التي ينبني عليها ذلك العلم الذي اتخذه الشيخ الأكبر رضي الله عنه مدخلًا للكلام في خصوص التوحيد، فضلًا عن الكلام في خواص الحروف وطبائعها وقواها وتأثيراتها مما رمزه غيرة على الأسرار، واتخذه من فهم عنه وسيلةً لاستنزال الأنوار.

وأول ما ينبغي علمه في هذا المدخل أن للحرف أربع مراتب وجودية؛ أعني وجود الحرف من حيث عينه، ووجوده في الذهن، ووجوده في اللفظ، ووجوده في الرَّقم وهو كتابته في الصحف.

ثم إن الحروف بسائط الكلمة المتكونة منها، والكلمة جزء الكلام، والنظر إلى الحروف والكلمات والكلام من هذا الوجه كالنظر إلى العالم مركبه وبسيطه، فإذا رجعنا إلى الحرف نقول إنه عبارة عن صوت انقطاع الهواء الخارج بالنفَس عند حدٍّ من حدود آلة النطق يسمى اصطلاحا مخرج الحرف، وما هو مخرجه على التحقيق، إنما هو محل انقطاع الهواء ومظهر عين الحرف الملفوظ، ويعرف مخرج الحرف بجعل همزة قبله كما نقول إب، إن، إس، أما قولنا: باء، نون، سين، فتلك أسماء الحروف لا أعيانها، وهذا بعض كلام القوم في حروف الألفاظ وكلماته، وهي أمثال منصوبة لديهم للدلالة على حروف الأكوان وكلماته، فالعالَم عبارة عن كلمات الله، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ [الكهف: 109]، وقد اصطلح أهل هذا الشأن على اعتبار كل مركب من الأكوان كلمة، وكل بسيطٍ حرف، فالأرواح حروفٌ، والصوَرُ كلماتٌ في اصطلاحهم، والحرف عينٌ بسيطٌ، واسم الحرف كلمةٌ مركبة دالة على عينه الذي هو النفَس الخارج.

ولمّا كانت الأكوان المتكونة كلمات الله التي صدرت عن أنفاس الرحمن، دلت على حياته وعلمه وإرادته وقدرته، كما دل كلام المتكلم منا على حياته وعلمه وإرادته وقدرته، فكان النظر إلى الحروف طريقٌ من طرائق معرفة الحق عندهم لأنها أخصر من الأكوان الكثيرة، وهي على مراتب كالأكوان، ولها خواص وآثار تنكشف لأهل هذا الفن بفنون المجاهدات والرياضات، فتنكشف لهم أسرار الكون والمكون متى خلصت النية وتحرر القصد من سوى طلب الحق تعالى.