
احتفالات المولد النبوي في العالم الإسلامي: عيون الرحالة والوافدين
مؤمن محمودكانت الرحلة وما زالت من أهم مصادر المعرفة الحية فهي معلومات ناتجة عن معايشة ومعاينة مباشرة بدون وسيط وعادة ما يكون الرحالة مولعين بتسجيل المظاهر الاحتفالية التي تصادفهم أثناء الرحلة لا سيما الاحتفالات الدينية وخصوصًا الاحتفالات الشعبية التي ينظمها الناس وقد لا تتعلق بالدولة أو تكتفي الدولة فيها بالإشراف والمساعدة.
وهذا لا يعني إغفال الرَّحالة للاحتفالات الرسمية، بل إن منهم من سجل ذلك كابن خلدون وتسجيله لاحتفال سلطان غرناطة بالمولد الشريف، وبطبيعة الحال لا يمكن لمقال واحد أن يقوم بعملية استقراء لكتب الرحلات وما سجله أصحابها في هذا الصدد ومن ثم فسأكتفي بعرض بعض النماذج بداية من القرن الخامس الهجري ووصولًا للعصر الحديث.
ويستحسن قبل الحديث عن المظاهر الاحتفالية في كتابات الرحالة الإشارة لبدايات الاحتفال بالمولد بصورة إجمالية، مع التأكيد على أن التصنيف في المولد الشريف كان سابقًا على الاحتفالات العامة وكذلك الاحتفالات الشعبية، كانت سابقة على نظيرتها الرسمية، فتشير المصادر إلى أن بداية الاحتفالات الرسمية في مصر تعود للعصر الفاطمي.
أما في العراق والشام، فقد عرفت الاحتفالات الشعبية أولًا على يد الشيخ عمر الملا أحد أعوان السلطان نور الدين محمود، وسرعان ما حضره القادة والأمراء لتعلن الدولة رضاها عن هذه الاحتفالات، وعن الغرب الإسلامي: فقد كانت البداية بدعوة الشيخ أبي القاسم العزفي للناس كي يحتفلوا بالمولد، وفيما بعد يصل ابن الشيخ للحكم ويحتفل بالمولد الشريف بشكل رسمي.
ويحدثنا ابن جبير في رحلته عن أوائل عصر سلاطين الأيوبيين عن اهتمام أهل مكة بالآثار النبوية لا سيما في يوم المولد الشريف وتعهدهم لمكان مولده صلى الله عليه وآله وسلم بما يليق ودخول الناس متبركين به كل عام في شهر ربيع الأول قائلًا: والموضع المقدس الذي سقط فيه، صلى الله عليه وآله وسلم، ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين، محفوفًا بالفضة ...... يفتح هذا الموضع المبارك، فيدخله الناس كـافـة متبركين به، في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه، لأنه كان شهر مولد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. وفي اليـوم المذكور ولد صلى الله عليه وآله وسلم، وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها. وهو يوم مشهود بمكة دائماً".
ونص ابن جبير هنا يشير إلى نقطة مهمة، فعلى الرغم من كون الرحلة في بدايات العصر الأيوبي فإن احتفالات المولد النبوي استمرت ولم تتوقف في العهد الأيوبي و إن كان ابن جبير تحدث عن احتفال شعبي فقط فسبب ذلك أنه لم يحضره وإنما سمعه من أهل مكة في موسم الحج.
وجدير بالذكر أننا نتحدث هنا عن الاحتفالات الشعبية بالمولد وهي تختلف كليًّا عن احتفالات العلماء بالمولد وكذلك الاحتفالات الرسمية للدولة وبطبيعة الحال كانت الاحتفالات الشعبية تلفت أنظار الرحالة لطرافتها من ناحية وغرابتها من ناحية أخرى فها هو "إدوارد وليم لاين" الذي زار مصر في القرن التاسع عشر وبالتحديد في فترة حكم "محمد علي باشا" يسجل احتفالات المولد النبوي والتي تتم مراسمها في منطقة بركة الأزبكية فيتحدث عن الاحتفالات مع بداية شهر ربيع الأول وحتى ليلة المولد وتختلف الاحتفالات النهارية عن نظيرتها الليلية، فبينما تقتصر الليلية على مجالس الذكر غالبًا نجد بالنهار شعراء الربابة ومنشدي السير الشعبية كالسيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس والحواة الذين يمارسون ألعابهم لتسلية الناس القادمين من أنحاء مصر.
وأشد ما جذب انتباه "وليم لاين" السير الشعبية والذكر واحتفالات الليلة الأخيرة، فيقول: والذكر أحسن مـا يستقطب انتباه المشاهدين أو السامعين ولا تضاهيه إثارة وأهمية سوى حكايات رواة القصص الشعبية وينتهي الاحتفال مع آذان الصبح وتتوقف كافة حلقات الذكر باستثناء ذِكر سـُوق البكري بعـد ثلاث ساعات من منتصف الليـل وترفع في اليـوم التالي الخيم وكـذلـك القـائم والصاري".
ولم تكن الاحتفالات شعبية فقط، فقد سجلت لنا كتب الرحلات احتفالات العلماء بالمولد، ومن ذلك الاحتفال في الحرم المقدسي الذي حضره الشيخ عبد الغني النابلسي ودونه في رحلته "الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى مصر وبلاد الشام والحجاز" فيبدأ الاحتفال بعد صلاة العشاء فيقوم رئيس طائفة الموالدية بقراءة القرآن الكريم ثم قراءة وإنشاد المولد الشريف وبعد ذلك يتم توزيع الحلوى وماء الورد في النهاية، ويحضر الاحتفال جميع فئات وطبقات المجتمع، ويحضر كذلك النساء والأطفال لكنهم يجلسون في ركن منعزل منعًا للاختلاط ويبدو أن هذا الاحتفال كان على قدر من الأهمية لحرص الجميع على حضوره، حتى النساء ذوات الحجال؛ ناحية من المسجد مجتمعات، ومعهن الصبيان الصغار والبنات، ثم شرع في المولد الشريف، وحوله جماعة من المؤذنين يترنمون بالصوت اللطيف ثم فرقوا على جميع الحاضرين أنواع السكر والنقل وطيب الرياحين، وجاؤوا بماء الورد ومباخر العود".
وعن الاحتفالات الرسمية التي تنظمها الدولة، فلدينا ما سجله ابن خلدون في رحلته عن احتفال سلطان غرناطة بالمولد النبوي، وإن كان ما يرويه ابن خلدون مقتضبًا وغير كافٍ فلدينا لحسن الحظ وصف الوزير لسان الدين بن الخطيب لاحتفال الغني بالله سلطان غرناطة وإن كان ذلك في عام آخر.
يتحدث ابن خلدون عن حضوره المولد في اليوم الخامس من قدومه، وأن السلطان كان يحتفل بهذا اليوم بصنع الطعام والولائم والإنشاد، وأنه يقلد ملوك المغرب في هذا الاحتفال.
و ينقل لنا الوزير لسان الدين بن الخطيب مَراسِمَ احتفالِ السلطان بالمولد في وصف طويل مسهب يتخلله الكثير من السجع المستخدم آنذاك، فيبدأ بوصف قصر الغني بالله وفخامته ثم يتحدث عن الحاضرين ومراتبهم ثم مجالس الذكر والإنشاد التي يقيمها السادة الصوفية، ثم يتحدث عن الساعة التي اتخذها السلطان لتنبه كلما مضى جزء من الليل ويمتد الاحتفال من صلاة العشاء إلى الفجر.
ومن اللافت للنظر ضخامة الاحتفال بما لا يتناسب مع وضع الأندلس السياسي الضعيف آنذاك، ولكن نفس الأمر فعله السلطان قنصوة الغوري في مصر، فنظَّمَ احتفالات ضخمة للمولد الشريف في محاولة لإظهار قوته.
وعلى كل حال فكلما أوغلنا في المصادر وجدنا أشكالًا ومظاهرَ مختلفة للاحتفال بالمولد الشريف، ويجب أن نعلم أن المحرك الرئيسي لهذه المظاهر هو الاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم فناء في حبه صلى الله عليه وآله وسلم، فاللهم اجز عنا نبينا ما هو أهله، واللهم صل على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
مراجع:
١-انظر عن بدايات الاحتفال بالمولد النبوي "نبذات عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي"،مجلة الصديقية الشاذلية،العدد الثالث،ص٧٦.
٢-ابن جبير، تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار =رحلة ابن جبير ،تحقيق: علي كنعان،دار السويدي للنشر، أبو ظبي،٢٠٠١م،ص٨٦.
3-إدوارد وليم لاين، عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم،ترجمة:سهير نعوم،مكتبة مدبولي،القاهرة،١٩٩٩،ص٤٧١.
4-عبد الغني النابلسي، الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز،اعداد:أحمد عبد المجيد هريدي،الهيئة العامة للكتاب،القاهرة، ١٩٨٦،ص١٣٢:١٣٣.
5-ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، دار الكتاب اللبناني،١٩٧٩،ص٨٩.
-6لسان الدين بن الخطيب، نفاضة الجراب وعلالة الاغتراب، تحقيق:السعدية فاغية،المغرب،د.ت،ج٣،ص٢٧٥- ٢٨٥.