
افتتاحية العدد - 2
مولانا الإمام أ.د. علي جمعةبسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد...
اللهم أنزل علينا السكينة، اللهم افتح علينا فتوح العارفين بك، واسلك بنا الطريق إليك، سهل أمورنا ويسر غيوبنا واشرح صدورنا ونور قلوبنا، واحشرنا تحت لواء نبيك يوم القيامة، واسقنا من يده الشريفة شربةَ ماء لا نظمأ بعدها أبدا.
مَنَّ اللهُ سبحانه وتعالى علينا بأن تلقينا هذه الطريقة من مشايخنا الكرام، ونرويها بالأسانيد المتصلة عن سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وتلقيت هذه الطريقة المباركة أول ما تلقيت عن العلامة المحدث المجتهد الفقيه سيدي أبي الفضل عبد الله عن أبيه قطب الدنيا سيدي محمد بن الصديق الغماري وبسنده إلى منتهاه، وكان هذا مع بدايات القرن الخامس عشر الهجري، ثم بعد ذلك مَنَّ الله تعالى علينا بسند آخر للطريقة عن طريق سيدي الشيخ محمد زكي إبراهيم، وكان عالما عاملا، يخدم الناس وينمي شأنهم، ثم بعد ذلك مَنَّ الله علي بطريق ثالث لذات لطريقة الشاذلية عن طريق سيدي حسن عباس زكي عن الشيخ عبد الفتاح القاضي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحصافي بسنده إلى منتهاه.
وكل هذه الأسانيد صبت في مشرب واحد، وسارت مسارًا واحدًا، كان نورا على نور، وهذا المسار هو أن طريقنا إلى الله مقيد بالكتاب والسنة يرويه الخلف بموصول السلف، فلسنا أهل ابتداع، ولا أهل مرائي، بل نريد أن نكون على ما كان عليه سيدنا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام، فالخير كل الخير، في هدْي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل الذي أرسله الله سبحانه وتعالى خاتمًا للنبيين وإماما للمرسلين، ختم به النبوة والرسالة وأنزل عليه الكلمة الأخيرة، حتى قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى»[1]
وهذه الأمة تميزت بأسانيدها، ولما خرج النابتة من الخوارج لم يكن عندهم سند إنما كانت عندهم آراء ووجهات نظر وشهوات ورغبات وتفسيرات واختيارات وانتقاءات يؤخرون ما يريدون أن يؤخروه، ويقدمون ما يريدون أن يقدموه، فضلوا وأضلوا، وكان كل جيل منهم يتشدد عن الجيل الذي قبله لأنه لم يرث من العلم شيئا: لا فعلا، ولا علما، وإنما ورث هذه الطريقة العجيبة الغريبة التي ملأت الأرض ضجيجا وجعلت الدماء تسيل وشوهت صورة الإسلام في العالمين. والمؤمن يقول ما عَلَّمَه الله ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران:173]، ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾[التوبة:59]، ولكن كان ولابد - وقد بلغَ السَّيْلُ الزُّبَى - أن نُنشئ هذه الطريقة، وأن نُعلنها، وأن نعلِّم الناس ما قد تعلمناه، وأن نؤدي زكاة العلم ببذله، وزكاة العمل بنشره، فالحمد لله الذي وفقنا لهذا الطريق.
ونعيش في افتتاحية هذا العدد مع بعض مقولات أهل الله، وتتوارد عليّ أسئلة متكررة بخصوصها، وهي :«عدد الطرائق على أنفاس الخلائق»، وعلى الرغم من ذلك قالوا:«إن لكل شيخ طريقة»، وقالوا: «المريد ابن أول طريق»، أي ابن أول طريق أخذه بسنده.
وهذه المقولات جاءت مما يمكن أن نطلق عليه الدوائر المتتالية، فهناك دائرة يميل فيها الإنسان إلى طريق معين فيبدأ في هذا الطريق وفي أذكاره وأوراده وأحزابه وطريقة ترتيبه واختياراته، فإن كل طريق يختار من البحر الخضم ما يوافق وقته وقدرته، وكلهم من رسول الله ملتمس، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو البحر الكبير الذي يرتوي منه كل المسلمين، بل كل العالمين على يوم الدين.
وقد سألنا مشايخنا: «كيف نتخير بين الطرق المختلفة حيث إن عدد الطرائق على أنفاس الخلائق»، فقالوا بأمرين: «القرب من السُنَّة»، و«القرب من اليسر»، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»[2]، وقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»[3]. فما كان أقرب إلى السماحة واليُسر كان أولى، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما كان أولى، وما كان أقرب إلى الالتزام بسنته المباركة كان أولى.
ولأن المريد ابن أول طريق، كانت هذه هي الدائرة الأولى، فإذا دخلت فلم تجد نفسك ولا قلبك ولا طمأنينة للقلب في هذا الطريق انسحبت منه؛ لأنك لم تعد بعد منتسبا انتسابا يمنعك من الانتقال إلى غيره، وهذه هي الدائرة الأولى التي يمكن أن تقول فيها: «أنا شاذلي أو نقشبندي أو دسوقي أو برهاني أو صديقي»، وغير ذلك من أنواع الطرق المختلفة، والمسجل منها في مصر ثمانون طريقة إلا واحد، فهذه الطرق كلها – وهي تسعى إلى التربية والتخلية من كل قبيح والتحلية بكل صحيح، يختار المسلم ما أراد منها. لكنه إذا لم يجد قلبه ووجد أن أموره لم تنتظم ولم يُفتح عليه في هذا الطريق، فإن له أن يجرب طريقا آخر. وكل هذا خاص بالدائرة الأولى، وأنه يجوز لك في هذه الدائرة أن تقول: أنا صديقي شاذلي؛ لأنك تذكر بذكرهم وترتب مراتبهم ولكن لم تصل بعد إلى الدائرة الثانية. فالدائرة الأولى هي دائرة النسبة، حيث تنتسب فيها إلى الطريق، ولكن يجوز لك أن تتراجع فيه.
فإذا ما فُتِح عليك فيه، ووجدت قلبك، واطمأنت نفسُك له، وانتظمت حياتُك به، انتقلت إلى الدائرة الثانية، وهي دائرة البيعة، والعهد، والتي إذا أخذتها، فلا يجوز لك أن تنتقي أو تنتقل إلى طريقة أخرى. والحادث في عصرنا أن كثيرا من الناس يخلط بين الدائرة الأولى والثانية، وأنه بمجرد دخوله في الأولى يعتبر ويعود نفسه في الثانية، وهو بذلك لا ينال شيئا، حيث لا يصل في هذا المنسوب إليه، ولا يصل إلى درجة العهد. وكثير ممن تصدر في هذا الأمر يسمون هذا الانتساب بـ«العهد»، وهو من الناحية العلمية محل نظر، فالصحيح أنها دوائر وأن هذه الدائرة الأولى قد تأخذ معك سنين حتى يطمئن قلبُك ويُفتح عليك وتحدث ما يسمى بالإشراقات، وهي نعم من عند الله لكنها ليس مقياسا للحق.
ومن الإشراقات: الرؤى، والكرامات، والكشف، والفتح، ومعرفة الأسرار، والواردات، والخواطر، والإلهام، والإشارات، وهكذا نحو عشرين من الإشراقات.
إلا أن هذه الإشراقات إذا حدثت، فليس معناها أنك قد وصلت إلى الله، بل معناها أن الله تعالى أنعم عليك بها، بما يوجب مزيد عمل وحمد له سبحانه وتعالى: «أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»، ومعناها أنك لابد أن تقوم بوظائف هذه النعم، فهذه الإشراقات نِعَم مثل نعمة المال، والصحوة، والقوة، والسلطة، والشهرة، والعلم ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[النحل:18]، والمهم فيما تستعمل هذه النعم، فمثلا إذا استعملت الغنى في معونة الناس واستعملت القوة في نصرة الحق والسلطة في إقرار العدل كنت على خير، أما إذا استعملتها في التكبر على الخلق، والإفساد في الأرض، والظلم لهم، فإنّ «الظُّلْم ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فأنت هكذا على باطل.
فهذه النعم لا نرفضها، ولا نأباها، لكن لا نعتمد عليها، ولا نقول: أعطاني ولم يعطك فقد فضلني عليك، وهذا واضح في القرآن الكريم في سورة الكهف، والقلم في «قصة أصحاب الجنة»، وغير ذلك.إذن النعم لابد أن تقوم بوظيفتها، ولابد أن تشكر عليها، ولابد أن تعدها نعمة تؤدي بك إلى الزيادة لا إلى التكبر على الناس.
إلا أنه لما فقد كثير من الخلق أن هذه النعم درجة ادعى بعضهم الرسالة وأنهم من مبعوثي العناية الإلهية وأنهم قد أُلْهِمُوا ما يصححون به سير البشرية حتى اختلت عقولهم ونفوسهم واضطربوا وأصبحوا على غير ما يريده الله منهم من عبادة الله وعمارة الأرض، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة يصعب عليك أن يعود لأنه اعتمد على تلك المشاهدات والمرائي وظن أنها درجات قد رفعته إلى السماء بخلافك، فكيف يطيعك، ويضل ضلالا بعيدا، وكل هذا رأيناه في حياتنا وإن كانت قليلة.
ولقد نبه على هذا أهل الله فقالوا: «مُلتفت لا يصل»، فالملتفت إلى هذه الإشراقات وهي كثيرة لا يصل، لأنك حينئذ تعبد الله من أجل أن تحدث هذه الإشراقات والنعم، ولا تعبد الله لأنه يستحق العبادة، فينبغي علينا ألا نُفتن في مثل هذه، وهذا هو هدف الطريق: «النصيحة والحماية للسالك في طريق الله أن يَضِلَّ أو يُضَل».
[1] أخرجه البخاري 4936، وأحمد 22862، واللفظ له.
[2] أخرجه أحمد 22291.
[3] أخرجه البزار 8949.