افتتاحيّة العدد - 4
مولانا الإمام أ.د. علي جمعةبسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد … نحتفل هذه الأيام بهذه الذكرى العطرة لشيخنا وأستاذنا ومعلمنا السيد عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه وجزاه الله بما يستحقه من خدمة السنة المشرفة. فقد كان حافظًا لأكثر من خمسين ألف حديث بأسانيدها، وكان متبحرًا في العلوم كلها، وكان أشقاؤه السيد عبد العزيز والسيد عبد الحي يقولون: "نعجب لهذا الرجل، فإننا لم نره يقرأ في كتاب، وكأنّ الله سبحانه وتعالى قد فتح عليه فعلَّمه مِن لدُنه علمًا"؛ كان رضي الله عنه آية من الآيات، كان يعرف عُمق المسائل، وكانت لا تغيبُ عنه مسألة لا في الفقه ولا في علم الرجال، ولا في علم الحديث، وكأنّه يقرأ من كتاب وما رأيناه يقرأ في كتاب، ما هذا؟ نحن رأينا رجلًا أكبر من كتبه، ورأيناه أكبر من الكُتُب.
ذات مرةٍ كان يجادله أحد النابتة؛ وكان الشيخ يذكرُ موقف الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه حيث جاء ليصلي الفجر بجوار قبر أبي حنيفة فترك القنوت، والقنوت ليس بسُنَّة عند الإمام أبي حنيفة، وهو سنة عند الشافعي ويُسجد لتركه؛ لأنه بعضٌ من أبعاض الصلاة، فها هو الإمام الشافعي ترك القنوت عامدًا ولم يسجُد. إذًا هو ليس بناسٍ، فسألوه: "لِمَ تركتَ القنوت، وأنت مجتهد ومذهبك أنّه سُنَّة يُسجد لتركه"، قال: "لأني بحضرة الإمام الأعظم"، ضرب السيد عبد الله هذا المثال لهذا الرجل كمثالٍ للأدب مع الأكابر، وضربه الشيخ مثالًا لمسألة الصلاة عند الضريح، فها هو الشافعي يصلي عند قبر الإمام، وهم يحرِّمون الصلاة في المساجد التي بها أضرحة أولياء الله الصالحين. فقال له هذا النابتة: "ولكن هذه الرواية فيها من لا يُعرف" -يعني في الإسناد-، فقال له السيد عبد الله: "ومن هو؟"، فقال له الرجل: "فُلان"، فقال الشيخ: "لكنَّه معروف"، قال النابتة: "لكني فتشت الكتب ولا أعرفه!"، قال الشيخ عبد الله: "هو معروف لديَّ"، قال النابتة: "هذا كلام ما يخيل علينا!" -يستهزئ بالسيد عبد الله-، قال الشيخ: "هذا الراوي الذي لا تعرفه هو ابن إسحاق بن راهويه"، وإسحاق بن راهويه لا يُوجد في الكتب، من أين أتى بهذا وكيف؟، فراجع الرجل الاسم، فوجده صحيحًا، وأنّه ابن إسحاق بن راهويه.
هؤلاء الناس لا يعلمون شيئًا ويهرفون بما لا يعرفون ويتصدرون قبل أن يتعلموا، وإحياؤنا لمثل هذه الذكرى العطرة التي نتذكر فيها أولئك الأعلام كسيدي عبد الله بن الصديق الغماري تُرَوِّح القلوب وتفرِّحها وتخرجنا من هذا النطاق النَّكِد الذي أدخلونا فيه من غير وعي ولا علم، فضيّعوا أكثر مما حافظوا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ولد الشيخ عبد الله بن الصديق الغُماري في سنة 1910 ميلاديّة الموافقة نحو 1328 هجريّة ومات في 1992 ميلاديّة، وذلك عن اثنين وثمانين سنة ميلاديَّة، ومات أبوه السيد محمد بن الصديق الكبير سنة 1351 هجريَّة، وللشيخ حينئذ حوالي 24 عامًا، وأخوه السيد أحمد من مواليد 1900 ميلاديّة، والسيد أحمد كان أشد منه حفظًا وعاش إلى 1960 ميلاديَّة، فالشيخ رحمه الله تعالى تأخَّر حتى نلتقي به وحتى نحكي لكم عن بعض فضائله.
نتذكر في هذه الأيام هذا العلمَ الفَياض، وهذه التقوى التي شهد له بها الآخرون، وليس فقط الأتباع والمحبّون، من كثرة الذكر، من الخلوة مع ربه، من تمام إخراج السوى من القلب. والشيخ عبد الله بن الصديق من الأكابر، فخاله جعفر الكتّاني، وشيخ شيخنا وأبوه محمد بن الصديق، كان السيد محمد بن الصديق يجلس في مرة يشرح حديث سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، فتكلم عن الحديث وقال ليست هذه السبعة فقط؛ بل ورد في السُّنَّة صفات أخرى تُظِلُّ تحت ظل العرش، وظل يسردها في مجالس عِدَّة حتى وصلت إلى تسعين صفة، ما هذا؟ … هذه نفحات ربّانيّة ومنح صمدانيَّة.
ووجدنا هذه التسعين حاول السيوطي أن يجمعها فلم يرق بها إلا إلى نحو ثلاثين صِفَة في موجبات ظل العرش، لكن وجدنا الشيخ الزُّرقاني في شرح الموطأ وصل بها إلى سبعين، إذًا العلم رحمٌ بين أهله وهو توفيق وفتح، فاللهم اجعلنا منهم ومعهم.
السيد عبد الله رحمه الله تعالى دخلتُ معه حارة الصناديقية حيث بيع الكُتُب بجوار الأزهر الشريف، فواجهنا الحاج حسين إمبابي رحم الله الجميع، وهو رجل كُتبي ناشر فقال له: "يا سيد عبد الله أليس عندك كتاب جديد نطبعه لك؟"، وكان يقف هناك أحد أساتذة الأزهر، فقال: "يا حاج حسين أنا أحايلك منذ سنة أو سنتين حتى تطبع لي كتابي، وأنا أستاذ في الأزهر، وأنت لا تريد طباعته، ثم لمّا رأيت هذا الرجل وهو لا يعرف السيد عبد الله- تطلب منه كتابًا تطبعه له؟، عجيب أمرك يا حاج حسين!!"، فنظر إليه الحاج حسين رحمة الله عليه وقال: "أتعرف من هذا؟…هذا ابن محمد بن الصديق، هذا خاله جعفر الكتّاني، لو جلسا وهو حاضر صغير بينهما فقط يتكلمان لتخرَّج من الأزهر وصار عالمًا كبيرًا".
وكان الشيخ محمود شلتوت -والذي أصبح شيخًا للأزهر- رحمه الله تعالى يحب أن يدافع عن صورة الإسلام في العالم، فأنكر نزول عيسى آخر الزمان، فردّ عليه الشيخ عبد الله الغماري بكتابه "البُرهان في نزول عيسى آخر الزمان"، وأتى فيه بالأدلة القرآنية التي تثبت تواتر نزوله آخر الزمان عليه السلام، وأن هذه عقيدة أهل السنة والجماعة باتفاق، فلمّا قرأ الشيخ شلتوت الكتاب، قال: "أريد أن ألتقي هذا المؤَلِّف"، وظنَّه رجلًا كبيرًا في السنّ، فلمّا زاره السيد عبد الله بن الصديق الغماري، وكان عمره حينئذ لم يتعدَّ الثلاثين، فقال له الشيخ شلتوت -شيخ الأزهر-: "أين الشيخ عبد الله الغماري؟"، فقال له: "أنا عبد الله الغماري"، قال: "أنت من كتب البرهان في نزول عيسى آخر الزمان؟"، قال الشيخ عبد الله: "نعم، سيدي"، قال الشيخ شلتوت: "يا بني من كتب البُرهان هذا لا يمكن أن يقل عمره عن ستين سنة!" وتعجَّب من سعة علمه وتمكنه، ومن حينها صارت بينه وبين الشيخ شلتوت صداقة ومحبة، وعامله معاملة الابن، ولم يخاصمه للاختلاف العلمي، وهذه هي أخلاق الأكابر. وسأله عن دراسته في الأزهر فأخبره الشيخ عبد الله أنّه أخذ عالميَّة الغرباء، فقال له الشيخ شلتوت لا بُدّ يا شيخ عبد الله أن تأخذ العالميّة الكبرى، فقال له الشيخ عبد الله: "أفعل إن شاء الله".
وكان غير العرب عادة يأخذون عالميَّة الغرباء، وكان الشيخ عبد الله يحفظ القرآن وله مقرأة في زاوية النقشبندية التي في شارع بورسعيد، وكان يقرأ بالقراءات العشر وكان حُجَّة في الرسم القرآني، فالشيخ رحمه الله تقدَّم إلى العالميِّة الأزهرية الكبيرة وعودلت بعد ذلك بشهادة الدكتوراه على ما فيها من صعوبة وما تتطلبه من تمكُّن في العلوم المختلفة. واختبر الشيخ عبد الله اثنا عشر عَالما من العلماء كان منهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ زغلول الإبياري وغيرهما؛ سألوه في المنطق، وفي البلاغة، وفي اللغة، والفقه وهكذا، إلى أن وصلوا إلى علم الحديث، فقالوا نسأله فيه، فقال لهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي: "تسألون من؟ هذا الشيخ عبد الله الغماري وهو من هو في علم الحديث!"، قال الشيخ زغلول: "لا بُدّ من سؤاله!"، فسألوه وأعطوه العالِميَّة من الدرجة الأولى وهي التي تُعطى للمتمكن من كل العلوم. ولمّا التقى الشيخ عبد الله بن الصديق الشيخ شلتوت رحم الله الجميع بعدها قال له الشيخ شلتوت: "يا شيخ عبد الله لقد تشرَّفت العالميّة الأزهرية بحصولك عليها".
لو جلسنا هكذا نحكي لأخذنا وقتًا طويلًا، فالسيد عبد الله بن الصديق كان آية من آيات الله، نسأل الله تعالى له الرحمة، وأن يلحقنا به على الإيمان وكمال الإسلام، وأن ينور قلوبنا وأن ينفعنا بعلومه في الدارين آمين.