السنة الثانية رمضان 1443 هـ - إبريل 2022 م


مولانا الإمام أ.د. علي جمعة
افتتاحية العدد - 5
مولانا الإمام أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

ضيف جاء ليكرمنا على عكس الحال المعتاد، فإن الضيف ينتظر أن يكرمه أهل الدار، إلا أن هذا الضيف لا ينتظر منا كرما ولكن يجعله الله سببا في الإكرام والغفران والعتق من النيران.

هذا الضيف هو شهر رمضان الفضيل، شهر رمضان المبارك، فهلموا عباد الله لاغتنام هذا الموسم الرابح، للتعرض لتلك النفحات الإلهية الطيبة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها» [رواه الطبراني في الأوسط].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال «التمسوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه].

فرمضان هو الشهر الذي يهيئ الله فيه جو العبادة، فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» [رواه الترمذي وابن خزيمة والحاكم في المستدرك].

وفي هذه المقالة سأذكر بعض الأمور التي يجب علينا أن نراعيها في هذا الشهر المبارك:

الأول: رمضان شهر القرآن وهذه أهم خصائصه، فعلى المسلم أن يخص رمضان بالإكثار من تلاوة القرآن كما أن ربه خصَّه بإنزال القرآن فيه، وكما كان حال رسوله الكريم ﷺ، فقد صح عن النبي ﷺ أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل عام مرة وكان ذلك في شهر رمضان، وقد شعر النبي ﷺ بقرب أجله في العام الأخير لأن جبريل قد عارضه القرآن مرتين.

ولذا كان السلف الصالح والعلماء يكثرون من مدارسة القرآن وتلاوته في شهر رمضان، فكانت عائشـة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس - أي ارتفعت - نامت.

وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن، وكان النخعي يختم في كل ثلاث ليال في العشرين الأول من رمضان، وفي العشر الأواخر يختم في ليلتين سوى الصلاة.

وكان لأبي حنيفة ستون ختمة في رمضان، وكان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن في المصحف، وكان للإمام الشافعي ختمتان في كل يوم سوى الصلاة.

فلعل هذه الأخبار تحفز المسلم وترغبه في الإقبال على القرآن الكريم ويتلوه في هذا الشهر العظيم، وينبغي أن يحرص المسلم على ختم القرآن على الأقل مرة واحدة في رمضان.

 الثاني: تربية النفس على  الصدقة، جعل الله الصدقة فيه خيرًا من غيره، وللصدقة عموما فضل كبير في الإسلام فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» [رواه الترمذي]. وقال ﷺ: أفضل الصدقة صدقة المُقل: «يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول» [رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم]

 وروي عنه ﷺ أنه قال: «إن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً» [ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج]. وقوله ﷺ : «من أفضل العمل: إدخال السرور على المؤمن يقضي عنه ديناً، يقضي له حاجة، ينفس له كربة».

بل إن الصدقة لتباهي غيرها من الأعمال وتفخر عليها؛ وفي ذلك يقول عــمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «إن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم» [رواه ابن خزيمة والحاكم في المستدرك].

وكان النبي ﷺ يكثر من الصدقة في شهر رمضان، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة»

ولقد حث الشرع الشريف على الصدقات في شهر رمضان ورغب فيها، ومن هذه الصدقات التي حث عليها، إفطار الصائم، فعن النبي ﷺ قال: «من فطر صائماً كان له مثل الأجرغير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» [رواه أحمد والنسائي]

الثالث: التقوى، فيكون في حذر شديد أثناء صومه من الاقتراب من الطعام والشراب والشهوة وكذلك من جميع ما لا يرضي ربه عنه، وبعد الإفطار يكون في حذر شديد من الوقوع فيما يغضب الله، فهو يراقب الله ويملأ أوقاته بالطاعات.

ولذا فالتقوى من ثمرات شهر رمضان والصوم، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

والتقوى في لغة العرب: مشتقة من وقاه ، وقيا ، ووقاية : صانه. من قبيل اشتقاق المصدر من الفعل على مذهب الكوفيين، أو التقوى ليس بمصدر بل اسم كالعلم ويؤيده ما في القاموس (واتقيت الشيء وتقيته حذرته). وهناك معان كثيرة لها في الشرع ذكرها العلماء لعل أبسطها: التباعد عن كل مضر في الآخرة، وقد ذُكر في معناها أيضا: أنها عبارة عن حجاب معنوي يتخذه العبد بينه وبين العقاب، كما أن الحجاب المحسوس يتخذه العبد مانعا بينه وبين ما يكرهه [أحكام القرآن للجصاص].

التقوى هي سبيل الفلاح، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وهي كذلك من أسباب معية الله : ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾. وهي باب للتعرف على صفات الجلال لله سبحانه وتعالى، قال تعالى : ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾.

وهي المعيار المعتبر للتفاضل بين الناس: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. والتقوى سبب لدخول الجنة قال النبي ﷺ: «أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق»[أخرجه الترمذي وصححه الحاكم]. وسبب لمحبة الله سبحانه وتعالى، فعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» [أخرجه مسلم]

التنبيه الرابع: تربية النفس على  الصبر، فالصبر ثمرة من ثمرات شهر رمضان، يتعلمها المسلم من هذا الشهر الفضيل، فيتعلم تحمل الألم والجزع في سبيل الله، ويهون عليه ألم النفس لرضا ربه، فشهر رمضان شهر التربية، يكسر فيه المسلم شهوته، ويلغي هواه، ولعل المنع من المباح في نهار رمضان والإذن فيه في الليل ثم المنع في الفجر يمثل منهجا تربويا في الامتثال لكل أوامر الله، حيث يتدرب المسلم على الترك والفعل في حدود المباح والمأذون له.

فرمضان يصنع المسلم الطاهر الممتثل لأمر الله التقي الصابر، وما زال في شهر رمضان آثار وأسرار كثيرة نسأل الله أن يتقبل منا صيامه وقيامه آمين.

الخامس: لم يكن شهر رمضان في الحضارة الإسلامية شهرا للعبادة والتقرب إلى الله تعالى فقط‏،‏ بل كان شهرا للعمل والجهاد لنشر ذلك الدين العظيم‏، فحينما تقوى النفس وتسمو الروح يعود ذلك بالضرورة على الجسد فيقوى ويشتد، فما الجسد إلا مرآة للروح.

ولذلك شهد شهر رمضان على مدى التاريخ الإسلامي الفتوحات العظيمة التي كانت عاملا كبيرا في نشر الإسلام بسماحته وعدله في ربوع العالم، كما شهد رمضان الكثير من الأحداث التي سجلها التاريخ علامات فارقة في مسيرة الحضارة الإسلامية. ففي الثاني والعشرين من رمضان المبارك في العام الأول للهجرة كان بدء إرسال السرايا النبوية، ومنها سرية حمزة بن عبد المطلب وسرية محمد بن مسلمة وغيرها من السرايا التي ساعدت في دعم قواعد الدين الإسلامي الحنيف. حتى كان السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، حيث كانت معركة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون بقيادة رسول الله ﷺ على جحافل الباطل.

وفي سنة ثمان للهجرة فتح رسول الله ﷺ وأصحابه مكة في الحادي والعشرين من رمضان، وكان هذا الفتح تتويجا لجهود النبي ﷺ وأصحابه في الدعوة إلى الله وإيذانا بسيادة الإسلام في شبه الجزيرة العربية، حيث دخل الناس على إثره في دين الله أفواجا.

وفي الثامن من رمضان سنة تسع للهجرة كانت موقعة تبوك، وعاد الرسول ﷺ من هذه الموقعة في السادس والعشرين من الشهر نفسه بعد أن أيده الله تعالى فيها تأييدا كبيرا. وبعد وفاته ﷺ استمر أصحابه رضي الله عنهم على نهجه في نشر الدعوة، وشهد شهر رمضان أيضا الكثير من الفتوحات الإسلامية العظيمة في أيامهم، ففي الثالث عشر من رمضان سنة خمس عشرة للهجرة وصل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى فلسطين بعد معارك ضارية لفتح بلاد الشام، وقد تسلم مفاتيح مدينة القدس وكتب لأهلها أمانا لأرواحهم وأموالهم، نسأل الله أن يردها سالمة للمسلمين.

وأما العاشر من رمضان فقد سجله التاريخ ليس كيوم نصر للمصريين فقط، بل كيوم نصر لجميع الأمة العربية والإسلامية، وسيظل يذكره كل عربي ومسلم على مدى الدهر، كان انتصار الجيش المصري على إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر عام 1973م في معركة العبور، حيث عبر الجيش المصري قناة السويس مستعيناً بالله واستعاد سيناء من المحتل الإسرائيلي، وقبل ذلك بمئات السنين وفي العاشر من رمضان أيضا سنة ستمائة وثمان وأربعين للهجرة الموافق الثاني عشر من ديسمبر سنة 1250م انتصر المصريون على لويس التاسع في معركة المنصورة، وقتل وأسر عدد كبير من جنوده.

وهكذا عرف شهر رمضان في التاريخ الإسلامي بشهر الفتوحات، ذلك الشهر الذي شاء الله تعالى أن ينتشر فيه نور الإسلام بأخلاقه وقيمه على العالمين.

وختاماً هناك حقيقة ينبغي لكل مسلم أن يعلمها ويعلم أن الله سبحانه وتعالى باقٍ بعد رمضان، وأنه إذا فات رمضان فإن الله لا يفوت ولا يموت؛ فالله سبحانه وتعالى باقٍ مع المسلمين وعليهم أن يفتقروا إليه ويكون وحده سبحانه الملجأ، ويجأروا بالدعاء، لابد أن نلجأ إليه سبحانه وتعالى فهو الذي يقلب القلوب وندعوه سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى حتى لا يكون الكلام هو مجرد دعاء بألفاظنا وألسنتنا وليس تعلق بالله بقلوبنا، نكون فيه ملتجئين إلى الله إلى أن يغيِّر حالنا إلى أحسن حال وأن يوفقنا أن نغير أنفسنا حتى يغير الله سبحانه وتعالى ما بنا.

اللهم ارزقنا الرضا، والأمن والأمان، وبلغنا ليلة القدر، وبارك لنا في أولادنا، ويسر أمر ولاة أمورنا. آمين آمين.