السنة الثانية جمادى الآخرة 1444 هـ - يناير 2023 م


مولانا الإمام أ.د. علي جمعة
افتتاحية العدد - 8
مولانا الإمام أ.د. علي جمعة

المسيح رمز السلام

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد صحابته الكرام والأمة من بعدهم بالموعظة، وكان يتعهدهم برواية القصص، وكان يتعهدهم بتعاليم الشريعة الشريفة، وكان يتعهدهم بتربيتهم على الأخلاق الحميدة، وكان يتعهدهم بمواقفه التي لا تنسى. ونقلوا كل ذلك إلى الأمة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فكان معلمًا للبشرية، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ}.

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس إلى صحابته، فيتحلقون حوله، وَيُعَلِّم الرواد منهم؛ حتى يُعَلِّمُوا مَنْ بعدهم، وبنى أمته على هذا العلم، فقال: «بلغوا عني ولو آية»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سَهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة». دخل مرةً إلى المسجد فوجد حلقتين؛ حلقة تذكر الله، وحلقة يتدارسون شيئًا من العلم، فقال: «هؤلاء على خير، وهؤلاء على خير، وإنما بُعِثْتُ معلمًا». فانضم إلى حلقة العلم.

كان يتعهد أصحابه بالموعظة، ومن الموعظة: ذِكْرُ القصة، وكان يريد أن يعلمنا أن أمة الله سبحانه وتعالى واحدة، من لدن آدم وإلى مبعث رسولنا الكريم، وإلى يوم القيامة، فكان يذكر لنا قصص الماضين؛ لأن أخلاقهم ينبغي أن نتعلم منها أخلاقنا، ولأن شريعتهم في ما اختصوا به تناسبت مع أزمانهم، أما في أخلاقهم فإنها تعبر الزمان والمكان، وتكون في كل الأحوال لجميع الأشخاص.

أشعرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننا لسنا في صدامٍ مع العالم، وأننا لسنا في صدامٍ مع أحد، وأننا نفتح قلوبنا وأيدينا للناس من حولنا؛ لأن هؤلاء هم عملاؤنا، هم الذين نعمل عليهم، حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى على أيدينا، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك مِمَّا طلعت عليه الشمس وما غربت»، والتاجر يحافظ على عملائه؛ ولذلك فالمسلم يحافظ على كل الخلق، لأن كل الخلق إنما هم من عملائه الذين يريدُ أن تصل إليهم كلمة الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}.

وكان مِمَّا ذكر من قصصٍ كثيرة، فاقت أكثر من خمسين حديثًا، يذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصصَ السابقين؛ حتى نستفيد منها، فيما أخرجه البخاري وأحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يتكلم في المهد إِلَّا ثلاثة: عيسى بن مريم، ورجلٌ من بني إسرائيل كان يُدْعَى: جُرَيْج»، إذن فالأول: عيسى بن مريم عليه السلام، لم يقف عنده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرًا؛ لأن قصته مذكورةٌ في القرآن، ذلك الذي كان يوم مولده -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يوم سلام، {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.

هذا اليوم الذي ذُكِرَ في القرآن؛ استبشارًا بكلمة الله، نور الأنوار، وسر الأسرار، سيدنا عيسى الذي اختلف عليه البشر؛ منهم: مَنْ كَذَّب واتهم، ومنهم: مَنْ غالى فعبد، ومنهم: مَنْ عرفَ الحقَّ فآمن. سيدنا عيسى : حبيب الرحمن، وهو نبيٌّ من أنبيائنا؛ ولذلك فَمَنْ أنكره، أو تطاول عليه فقد كفر، كفر كفرًا ينقله عن الملة، كفر كفرًا لم يبقه بعد ذلك مسلمًا. سيدنا عيسى : كان مُبَرَّأً من كل عيبٍ ونقصٍ وشينٍ، لم يفعل شيئًا في حياته إِلَّا وقد رَضِيَ اللهُ عنه.

ولذلك نرى الإمام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»: يُكْثِرُ من ذِكْرِ عيسى، ومن ذِكْرِ قصصه، ومن ذِكْرِ أخلاقه، ومن ذِكْرِ مواقفه، برواياتٍ هي من روايات المسلمين، فيعلي من شأنه، ويتعلم منه. أكثر جدًّا في «الإحياء» من ذِكْرِه عليه السلام. وهو ممن نطق في المهد، وهي معجزة تلفت الأنظار، وترقق القلوب؛ فإن الله أجرى العادة في بني البشر: أَلَّا ينطق الطفل الرضيع في مهده.

سبحانه وتعالى لم يجعل النطق من شأن الأطفال، بل جعل النطق من شأن مَنْ يستطيع أن يفكر، وأن يرتب المقدمات للوصول إلى النتائج. ولذلك لَمَّا ترجم المسلمون هذا العلم من أرسطو، أسموه بعلم المنطق؛ لأنه علمٌ يحفظ الذهن عن الخطأِ، كما يحفظ النحو اللسانَ عن الخطأِ. ومن الخطأ ألا نعرف قدر سيدنا عيسى عليه السلام، فالمسلم يعتقد في سيدنا عيسى عليه السلام النبوَّة والرسالة وأنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم عليها السلام، وأمّه صِدِّيقَة، وأن يوم مولده يوم سلام بنصّ القرآن، وحثّنا القرآن على أن نتذكر أيّام الله {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِ} ومن أيّام الله يوم مولد هذا النبي الكريم عليه السلام، ولمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وجد يهود يحتفلون بنجاة موسى بيوم عاشوراء، فقال: «نحن أولى بموسى منهم»، فالمسلم أولى بالأنبياء وبالاحتفال والاحتفاء بهم من كل أحد في كل وقت.