
أخلاق أهل الجنَّة من كتاب تمام المنَّة
عبد الله أبوذكريروى الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن: "أحسن الحسن الخُلُق الحسن"[1]، وهو الحديث المسلسل بالحُسن، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وفي لفظ" صالح الأخلاق"[2]، فتدعونا المحجَّة البيضاء في غالب النصوص القرآنية والنبويَّة إلى حُسن الأخلاق ومعاليها وترك سفاسفها وسيئها، وحُسن الخُلُق موجب للجنَّة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الرجل ليبلغ بحُسن الخُلُق منزلة الصائم القائم"[3]، ويقول: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويُؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"[4].
وقد تأمَّل علماء المسلمين النصوص النبوية الشريفة حتى يؤسسوا برامج عمليّة تطبيقية؛ لتنفيذ الأخلاق في واقع الناس فوجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الجَنَّةَ»[5]، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يلفتنا إلى أهميّة العمل بالأخلاق وتحويلها لواقع معيش ينتفع به الخلق، فيقول: إن هناك أربعين خصلةَ عملٍ تستطيعُ أن تعمله، أو إجراء يمكنك أن تقوم به، أعلاها؛ يعني أصعبها أو أكثرها فائدة وتأثيرًا في دُنيا الناس وعند الله هي منيحة العنز، ومنيحة العنز أن تكون لك عنزة -أنثى الماعز- فتعطيها لجارك يحلب لبنها ويعيدها إليك آخر النهار، ماذا نقص من العنزة؟ لا شيء، بم أفدت جارك؟ بالسقيا والغذاء الطيب وهو اللبن، هل هذا عمل صعب؟ بالعكس هذا عمل بسيط، وغير مكلف، وعلى بساطته تلك إلا أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يلفتنا إلى أنّ هناك أعمالًا أخرى أقل منه في الكُلفة وأكثر بساطة توجب لنا الجنَّة كذلك.
إذًا فهو يعطينا برنامجًا عمليًّا يمكن تطبيقه الآن مباشرة، فإني إذا قلت لك طبق الأخلاق الحسنة تحتاج إلى أن تتأمل ما هي هذه الأخلاق وكيف أطبقها؟ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختصر لنا الطريق إلى رضا الله وبيّن لنا بطريقة عمليّة بسيطة سهلة ميسورة، كيف نتخلَّق بأخلاق أهل الجنَّة، فنكون من أهلها ونحن نعيش في دنيا الناس.
حاول العلماء جمع هذه الخصال من أحاديث أخرى تتكلم عن موجبات الجنَّة، فلم يصلوا إلى جمع الأربعين عنوانًا من الأحاديث النبويّة، حتى جاء السيد عبد الله بن الصديق الغماري رضي الله عنه وأرضاه، فوفّقه الله لجمعها في كتاب صغير الحجم عظيم النفع وأسماه: "تمام المنَّة ببيان الخصال الموجبة للجنَّة"، فجمع هذه الخصال الأربعين من الأحاديث النبوية الشريفة، ولم يكتف بهذا، بل استخرج ما يزيد على الأربعين رضي الله عنه وأرضاه، ثم علّق عليها بأسلوبه الرشيق الماتع وكلماته البسيطة المختصرة حتى تكون يسيرة على القراءة والتطبيق.
وهذه الخصال الشريفة يصح أن تكوّن في مجملها ما أسماه المسلمون والسادة الصوفيّة خصوصًا: "الخدمة"، فالخدمة هي القيام على شئون الخلق بالنفع طلبًا لمرضاة الله وعمارة للدنيا، كما أمرنا المولى سبحانه وتعالى، فلم يفرقوا في الخدمة بين إنسان وحيوان وجماد، فصارت الخدمة مفهومًا واسعًا للعمارة والتزكية، فأنت تُعَمِّر الكون بتطبيق الخدمة وتتزكى نفسك بهذا التطبيق من فضل الله وواسع كرمه، وكان كل إجراء من إجراءات هذه الخدمة موجبًا من موجبات الجنَّة فيحيا الإنسان في جنَّة في الدنيا بتلك الأخلاق والخصال العالية.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبرنا في هذا الحديث بهذه الخصال سردًا، بل أعطانا أولها، وهو ما يدل على أنَّ الأمر ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل المثال، إذا لدينا أربعون عنوانًا أو فكرة مجرَّدة، وتحت كل واحدة تتعدد الأمثلة ولا تتناهى يمكن أن نستنتجها من واقعنا، فإذا وقفنا عند منيحة العنز وجردنا معناها وجدناه محض إعارة شيء عندي يستفيد منه غيري، ثم يعيده لي مع بقاء عينه وعدم تغيره، فيدخل في ذلك إعارة قلم مثلًا لزميل الدراسة، أو إعارة كتاب أو إعارة شاحن الموبايل وهكذا، وإنّما ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المثال عليها بخصلة منيحة العنز لجمعها عدة خصال في خصلة واحدة، ففيها إعارة، وفيها سُقيا اللبن وفيها إطعام الطعام؛ إذ اللبن غذاء كامل، فضربه لنا من أعلاه وأحسنه وأجمله، ثم يفصِّل لنا السيد عبد الله بن الصديق الغماري رضي الله عنه في كتابه الماتع هذه الخصال، فيذكر منها: سقيا الماء، وإطعام الطعام، والتساهل في النقد، وإيناس الوحشان، وغير ذلك.
وكل هذه الخصال تتلخص في مساعدة الناس وتقديم العون لهم وتطييب خواطرهم، وقضاء حوائجهم والنظر في مشكلاتهم، وهو ما أشرنا إليه بـ"الخدمة" سابقًا، فإنك إذا جعلت هذه الخصال أمام عينيك تطبقها في حياتك على بساطتها عِشتَ بأخلاق أهل الجنَّة. فرضي الله عن سيدي ومولاي الإمام علي جمعة الذي أوصلنا بالسيد عبد الله بن الصديق الغماري، ورضي الله عن شيخه السيد عبد الله بن الصديق الغماري ونفعنا بهما وبعلومهما وببركاتهما في الدارين آمين.
[1] انظر: العجالة في الأحاديث المسلسلة ، ص79. والحديث أخرجه القضاعي في مسند الشهاب، ح986.
[2] أخرجه بلفظ" مكارم"، القضاعي في مسند الشهاب، ح1156، ولفظ" صالح" البخاري في الأدب المفرد، ح273، وغيره.
[3]أخرجه الطبراني في مكارم الأخلاق، ح 2.
[4]أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، ح 605.
[5]أخرجه البخاري، ح 2631.