السنة الثانية جمادى الآخرة 1444 هـ - يناير 2023 م


محمد عوض المنقوش
خصائص الشاذلية - 2
محمد عوض المنقوش

مما خصهم الله به رضي الله عنهم: (تسهيل السير على السائرين) فلا تجد في طريقهم تعويقًا، بل يُسر في يُسر؛ لأن رافع راية الطريقة قيل فيه بأنه (سهل الطريقة على الخليقة)، فقد ورث هذا التيسير من سيد الميسرين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فما خُيّرَ بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، كما فى الصحيح، ونجد هذا اليسر في طريق قطب الأقطاب ظاهرًا في أسلوب التخلي بالتحلي، وهي نظرية (الدفع) {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، وبمفهوم قانون الإزاحة، أي لكي نزيل ونزيح ونبدل خُلُقًا سيئًا فإننا نفعل هذا عن طريق الدخول في خُلُقٍ حسنٍ، وكم يأخذ هذا من جهد وطاقة وينجح من بين هؤلاء عددٌ قليلٌ لا يُذْكر، ومن يقرأ في سير السائرين يجد حجم الصعاب التي يكابدونها، من صبر وتصبّر وكبدٍ وعناء في إقلاعٍ عن عادةٍ أو تركٍ لمحرم قد أدمنه، ويبذل في هذا جُهدًا جهيدًا ووقتًا طويلًا، فجاء كهف أمن الطلاب ووارث سر الأعتاب ففتح الباب وأَدخل الأحباب، بسر ذكرهم للمحبوب، فإن الذكر خاصة بـ لا إله إلا الله يبدل ما استعصى من السلوكيات بل وما كمن فى النفوس من هواجس ورجائس، فيحصل التبديل والتغيير بسر النفي للسوالب في (لا إله) وسر الإثبات لكل موجب في (إلا الله)، وهذا مع معية المعارف من معين العارف أبي الحسن الشاذلي إلى صدور الشاذلية، فيسقيهم شرابًا طهورًا من معارف الوهاب ومعاني الأسماء والصفات، فتزيد علاقتهم برب الأرباب وتجذبهم إلى حظيرة القدس، لتأخذهم معارفهم من قبيح صفاتهم إلى جميل صفاته سبحانه، ولتحملهم أذكارهم من تعثرات طريقهم النفسية والسلوكية إلى مدائن {والله يدعوكم إلى دار السلام} في لطف وعافية، ومن غير كد وعناء، فـ (شيخك من أراحك لا من أتعبك) كما نسبه التاج في اللطائف لأبي الحسن عليه الرضوان، وقد تلقف هذا من شيخه مولاي عبد السلام بن مشيش الذي سئل عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يسروا ولا تعسروا» فقال: دُلوهم على الله، ولا تدلوهم على غيره، فإن من دلك على الدنيا فقد غشك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك، كما في عُدة المريد لزروق، وقصدُ الشيخ والتلميذ هنا؛ ليس ترك العمل، بل ترك رؤية فعلك فى العمل برؤية الله فاعلًا فيك فيرتفع عنك العنا ويحل محله الهنا فترك المجاهدة أي ترك رؤيتك لنفسك فبها ترى العناء فإذا رأيت الله وشاهدته فاعلًا: حمل عنك مشقة العمل وصرتَ مكلفًا بلا تكلّف، وطريق هذا: الذكر والمعارف ففيهما فجاهد؛ فالذكر خفيف على اللسان، والمعارف تخترق الجنان؛ فتتبدل الأحوال بالجمال بقدرة الجليل المنان، وهذا كله من ميراث النبوة ومشكاتها التي ورثها الآخذ بأيدينا إمامنا الشاذلي حيث تربّى على قول جده العدنان عليه الصلاة والسلام وعلى آله: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) كما فى البخاري، وقوله ((إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى)) كما عند البزار، وقوله: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) عند أحمد، وقوله: ((يسروا ولا تسروا وبشروا ولا تنفروا))، ((فإن الرفق ما كان في شيء إلّا زانه)) كلاهما في صحيح مسلم، وهذا باب فى الشريعة واسع، مَدِيدَةٌ نصوصه عديدة فصوصه، علا به أصل الشاذلية الأصيل من سيرة نبينا الجميل عليه صلاة ربنا الجليل، الذي كان ينقّي ويرقّي بأسهل طريق، فما قال لأحد لا تسلك طريق الله إلا إذا فعلت وتركت، بل كان يدلهم بأيسر ما يستطيعون فينقلهم بما استطاعوا إلى ما لم يستطيعوا، ((فكل ميسر لما خلق له)) كما فى الصحيحين، فرضي الله عن من سهل لنا الطريقة وسقانا الحقيقة وعلم ألسنتنا ذكر الحق في كل بسط وضيقة، حتى علّقَ قلوبنا بالحق، فسِرْنا بسره بغير مشقة معيقة، وسُرَّ سِرُّنا بهذه الطريقة العميقة الدقيقة، ولأن هذه الطريقة العلية الشاذلية ليست كتبًا ولا سطورًا تورث، بل نور فى الصدور يُكرّس، فقد كان قطب زماننا ونورنا وأماننا، شيخ طريقتنا العلية الصديقية الشاذلية حاملًا للواء التنقية والترقية بالحال قبل المقال وبتقديم الأفعال على الأقوال، لأنه أخذها من الصدور لا من السطور، وبقيت سطور أخرى لا أخيرة فى المقال التالي.