
خصائص الشاذلية - 4
محمد عوض المنقوشوممَّا خَصَّ الله بهِ هَذِه الثّلةَ العظيمَة السَّادة الشَّاذليَّة رضي الله عنهم: انتشارُ أورادهم وأحزابهم وقصائدهم وحكمهم في دوائر إخوانهم من أبناء طُرق أهل الله المتنوعة رضي الله عنهم، وزادهم جميعًا رِفعةً، والانتشارُ مقرون بالهدى والاتباع لأصول الدين، كما هو من أوصاف السادة الشاذلية، وهذا من علامات القبول والرضا من رب الأرض والسماء، وهي علامةُ الإخلاص رزقَ الله الجميع ذلك، كما الحال في كِتابِ رياض الصالحين والأربعين النووية للإمام محي الدين النووي رضي الله عنه المتوفى 676 هـ .
وفي هذه الطائفة المباركة (السادة الشاذلية)، ترى هذا جليًّا بغير خفاء في ورد الشاذلية الأعظم والأشهر (حزب البحر)، الذي أُفيضَ على إمام أرواحِنا أبي الحسن الشاذلي عليه الرضوان قبل وفاته بأيام قليلة وانتشر بعده انتشارًا عظيمًا؛ لأنه أوصى به أن نُحفظه الأطفال، وأن نقرأه بالليل والنهار.
ولمَّا ظَهرَ مِن بَركاتِ حِزب البحرِ ما ظَهرَ في كلِّ زمانٍ ومكان مِن إجابة الدُّعاء به، انتشر في الآفاق بين مُريديه، وتَجاوزهم إلى مُريدي طُرق أهلِ الله المُتعدِّدة، وهذا من بركات هذا الإمامِ العَلَمِ والقطب الذي انجذبت له الأقطاب، وعلامة عظيمة على إخلاصه وتمحض توجهه لمولاه سبحانه وتعالى، حتى سَرى هذا السرُّ والاختصاص؛ (أي خُصوصية الانتشار) في أتباعه وأتباع أتباعه، فترى قصيدةً هِي بكل القصائد شهرة، ونظمها تبارت فيه القرائح جملة، وعارضها بوزنها الفحول من شعراء الزمان بأبيات علّها تنال من عَبيرها شيئًا، فما استطاع أحد ولا كان، حتى قال أمير من أمراء الشعر وهو أحمد شوقي فيها بعد ابتغاء تقليدها بقصيدته المشهورة (نهج البردة):
الْـــمَـــادِحُـــونَ وَأَرْبَـــابُ الْـــهَـــوَى تَــبَــعٌ لِــصَــاحِــبِ الْـبُـرْدَةِ الْـفَـيْـحَـاءِ ذِي الْـقَـدَمِ
مَــدِيــحُــهُ فِــيــكَ حُــبٌّ خَــالِـصٌ وَهَـوًى وَصَــادِقُ الْــحُــبِّ يُــمْـلِـي صَـادِقَ الْـكَـلِـمِ
اللــــهُ يَــــشْــــهَــــدُ أَنِّــــي لَا أُعَــــارِضُـــهُ مَـنْ ذَا يُـعَـارِضُ صَـوْبَ الْـعَـارِضِ الْـعَـرِمِ؟
وَإِنَّــمَــا أَنَــا بَــعْــضُ الْــغَــابِــطِـيـنَ وَمَـنْ يَـــغْـــبِـــطْ وَلِــيَّــكَ لَا يُــذْمَــمْ، وَلَا يُــلَــمِ
هَــذَا مَــقَــامٌ مِــنَ الــرَّحْــمَــنِ مُــقْـتَـبَـسٌ تَــرْمِــي مَــهَــابَــتُــهُ سَــحْــبَــانَ بِـالْـبَـكَـمِ
وغيره كثير، تجاوز عددهم الـ 100 ممن شرحوا أو عارضوا وأرادوا تقليد صاحب البردة الشريفة الإمام البوصيري الشاذلي تلميذ أبي العباس المرسي رضي الله عنهما، والذي وُهِبَ هذه القصيدة (البردة) عن طريق الفيض حقًّا بلا ريب، والدليل على ذلك: مقارنتها بديوان البوصيري الكبير الذي ستجد اختلافًا في جودة النظم إذا ما قارنت البردة ببقية الديوان، وكأنهما لشخصين مختلفين تمامًا، وهذا من أدلة كونها إلهامًا من الحق سبحانه وتعالى؛ لعدم قدرة أحد على مجاراتها وسبقها في ميدان المعاني والنظم، وهذا ما جعلها على ذُروة قصائد الشعر في مدح سيدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذاع صيتها، واخترقت القلوب والمسامع، وجذبت كل محبٍّ لرسول الله، وشفت صدور قوم مؤمنين في التعبير عن حب السيد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فترى كل محب من كل طريق من طرق السلوك لرب العالمين، تتخذها رفيقًا في مجلسها وعند كل احتفالٍ بمولده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، مع أن البوصيري عليه الرضوان شاذلي، إلا أن البردة الشريفة لا تعرف الحدود، فتجدها في مجلس كل محب .
ونختم بتاج العارفين وسلطان المترجمين عن رب العالمين تلميذ أبي العباس المرسي رضي الله عنه وأنالنا من بركاته، ألا وهو إمام الحقيقة والشريعة، لسان العارفين، المتكلم بالإذن العالي، والمتضمخ بالمعنى الغالي، سيد الطائفة، سيدي ابن عطاء الله السكندري، زاد الله ثراه طيبًا، الذي قيل له: تكلم فإن الله يحب أن يسمع كلامك، إنها الحِكَمْ يا سادة "الحكم العطائية الثرية بالمعارف الإلهية، بنسيج لا تراه إلا في هذه الحكم، التي قال عنها المحققون: (لو جازت الصلاة بغير القرآن لجازت بالحكم العطائية)، ذاعت كلماته وعباراته ومعانيه؛ لأنها خاطبت الروح التي لا سيرة لها إلا مولاها، فحلّت الإشكالات، وفككت عقد النفس بدون أن تخاطب النفس، وحركت الجسد بدون أن تتعامل مع الجسد، (إن من البيان لسحرًا)، يهبه الله لمن يشاء، وهذه نبوءة شيخه المرسي بأنه سيكون سيدًا للطائفتين ولسانًا للفريقين، وبعد أن رأى السالكون ما فعلته بهم هذه الحكم، من تغيير للحال وتعليقهم برب الأرض والسماء، انكبوا عليها قراءة ودراسة وشرحًا، مِن كلِّ مَشربٍ وطريق، لمّا رأوها مزيلة لكل تعويق، حتى إن الإمام زروق عليه الرضوان شرحها أكثر من 37 شرحًا.
وهذا كله من بركات إمامنا الشاذلي رضي الله عنه، الَّذي كتب الله لطريقه الانتشار، فكانت أكثر الطرق على الاطلاق انتشارًا، وخصَّ أورادها وقصائدها وحكمها بالقبول والإقبال عليها من كل طائفة فكانت محل إجماع وحب وتعظيم.
وكانت هذه خصيصة من الخصائص الشاذلية التي أرجو ختمها بعشرين.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.