السنة الرابعة ذو الحجة 1445 هـ - يونية 2024 م


د. مجدي عاشور
خواطر حول أسماء الله الحسنى (6)
د. مجدي عاشور

وما زال الكلامُ مستمرًّا حول لفظِ الجلالةِ (الله)، وخصائصِ هذا اللفظِ العجيبِ، الذي تفنى الأعمارُ ولا يفنى الكلامُ حوله، وقد تكلمنا في المقال السابقِ عن مخارج أحرف هذا اللفظ المبارك، ونزيد فنقول:

 إنَّ ألفَ الوصل والهاءَ كلاهما حرفُ حلق، واللامَ حرفٌ يخرج عن طريق تعليق طرف اللسان في أعلى الفم، وفي هذا إشارةٌ عجيبةٌ، وكأن المرادَ: أنَّك حينما تنطقُ لفظَ الجلالة تبدأ بألف الوصل من الجوف –أي من القلب-، ثم تكرر اللامين؛ أي إذا استقمتَ فى أوَّلِ الأمرِ ثم كررتَ تلك الاستقامةَ، ثم تختم بحرف الهاء من الجوف، فكأنك رجعت إلى أوَّلِ الأمر بحرف الهاء إلى الموضع نفسِه الذي بدأت منه؛ أي إلى القلب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخوراج: " يقرأونَ القرآنَ لا يُجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ يقولونَ من قولِ خيرِ البريَّةِ ، يمرقونَ من الدِّينِ كما يَمرُقُ السهمُ من الرَّمِيَّةِ." [أخرجه البُخاري وغيره]، بمعنى أنه لم يصلْ إلى القلب، مع أنهم كانو ينطقون بالنطق الصحيح، ولكنها ليست بالنطق فقط بل بالحضور في النطق وفهم معنى الكلمات والحروف، وهذا من خصائص لفظ الجلالة (الله).

بعد البحث والاستقصاء أيضًا وُجِد أنَّ

عددَ آيات القرآن الكريم (6236) آية، ذكر فيهم حروف اللام واللام والهاء المكوِّنة للفظ الجلالة الله (2699) مرة. وفي (85) سورةً من سور القرآن ذُكر لفظ الجلالة (الله)، وفي (29) سورةً لم يُذكر فيها لفظ الجلالة، ولكن ذُكر فيها لفظ (ربي) أو (رب العالمين)، وهكذا؛ لذا تجد في أول كل سورة (بسم الله الرحمن الرحيم)، لماذا؟ حتى يُذكرَ لفظُ الجلالة (الله) في كل السور حتى التي لم يرد فيها هذا اللفظ المبارك، لذلك يستحب قراءةُ البسملة فيها حتى نذكرَ اسم الله دائمًا.

وفي سورة المجادلة وُجِدَ أنه لا تخلو آيةٌ من لفظ الجلالة (الله)، بل ويُذكَر أحيانًا أكثرَ من مرة في الآية الواحدة، وهذا له دلالةٌ عجيبة جدًّا؛ وهي أنْ تجعلَ جدالَك في أوله ووسطه وآخره لله عز وجل، لا تبتغي به سوى وجهه الكريم؛ أي أخلِص نيتَك في جدالِك بأن تكون النيةُ نصرَ الحقِّ على أيِّ لسانٍ كان؛ لسانِك أنت أو لسانِ غيرِك، لذا قال الشافعي رضي الله عنه: "ما ناظرت أحداً قطُّ فأحببت أن يخطىءَ"، وقال: " ما كلمت أحداً قط ‌وأنا ‌أبالي ‌أن ‌يبين ‌الله ‌الحق ‌على ‌لساني ‌أو ‌على ‌لسانه." (إحياء علوم الدين 1/26).

من جمال وبركة (بسم الله الرحمن الرحيم) التي ذُكِرَ فيها لفظ الجلالة

أنها مِفتاحُ كلِّ خيرٍ؛ فسورةُ الفاتحة هي أعظمُ سورةٍ فى القرآن، وهي بدايته، إذن فالبسملةُ آيةٌ عظيمةٌ – على الرأي الراجح- في كتاب الله عز وجل، ولذلك هي الآية الوحيدة التي من الممكن أن تأتيَ في أولِ السورة، أو تأتيَ في وسطها، كما قال الله تعالى: (( وَإِنَّهُۥ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ )) [النمل: 30]، وهذا دليلٌ على أنها يجوز أن تكونَ وردًا عظيمًا، وتكون في أولِ كلامِك وفي وسطِه.

لهذا اللفظ العجيب (الله) أنوارٌ شديدة

يقول أهلُ الله والأشياخُ لكل مريدٍ في بداية الطريق لا تكثر من الذكرِ بلفظِ الجلالةِ (الله)، لأن أنوارَه عاليةٌ جدًّا، لذا تجد مُريدًا يشكو ويقول: أنا ذكرت بلفظ الجلالة (الله) بعدد كبير جدًّا في الليل، ولكنني لم أستطع ولم أطِق نفسي حينها، وما هذا إلا لأنوار هذا اللفظ المبارك، لذا تأتي وظيفة الشيخ في مثل هذه الأحوال؛ وهي حمايتك من نفسك، وأن يُسيِّرَك ويصنعَ لك مجرًى من الأنوار على قدر طاقتك وجهدك، واعلم أنه: (ما من نورٍ إلا وله نارٌ)؛ فالشيخ يعطيك النورَ مخلّصًا من جميع الأنيار، لذا هو الذي ينظم العدد لكل مريد على حسب حاله، وكلهم من رسول الله ملتمس، وما أخذوا ولا تعلموا هذا إلا من سيد الأخيار صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعطي الصحابة كلًّا على قدره، فيُرَخِّصُ لهذا ويأمرُ بالعزيمة لذاك صلوات الله وسلامه عليه.