السنة الثالثة جمادى الآخرة 1445 هـ - يناير 2024 م


الشيخ. أيمن حمدي الأكبري
العالَم كلمات الله
الشيخ. أيمن حمدي الأكبري

مِن الشرور ببسم اللهِ والكلِمِ

‎أعذتُ نفسي وأهلي ثُم ما ألِدُ

‎كذا تحصّنتُ باسم النونِ والقلمِ

‎مع الأحبة مِن شر الذي نجِدُ

‎ولُذتُ بالقافِ والأوتادِ والعَلَمِ

‎ولستُ أرضى بهذا الحصنِ أنفردُ

‎فخُذ عن الحقِّ ما أهدى مِن الحِكمِ

‎عسى الحقائق والأشخاص تتحِدُ

‎فكم ترجّلتُ محمولاً على قدمي

‎ولستُ أعبأُ في سيري بمن حسدوا

‎إنَّ الخلائقَ فرعٌ بانَ عن عدَمِ

‎وعن وُجودٍ وللأسماءِ تستندُ

‎والكُلُّ في اللوحِ قرآنٌ لذي قَدَمٍ

‎في الصدقِ يتلوه ربٌّ سيدٌ صمدُ

‎وليس يُنبيكَ مثلُ النورِ والظلَمِ

‎عن الوجودِ حماكَ الواحدُ الأحدُ

‎ففي الحقائق مثلُ العُرْبِ والعجمِ

‎وفي الخلائقِ دوماً يهرمُ الجسدُ

‎فغُضَّ طرفكَ عن عادٍ وعَن إرَمِ

‎إني أعذتُكَ مِن شرِّ الأولى جحدوا

‎وولِّ وجهك شطرَ الحقِّ في الحَرمِ

‎ترى الجمالَ ومَنْ بالحُسْنِ ينفردُ

 

الحمد لله مودِع الاستعداد في القوابل، والصلاة والسلام على أنموذج كل كامل، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين.

‎وبعد، فإن الحقائق صنفان، حقائق بسيطة وحقائق مركبة، وكلها معقولة غير محسوسة، وإنما يكون التمايز بين الصنفين بحسب التعقُّل، وهذا سواءٌ في الحقائق الأسمائية أو الكونية، ولا تتسع المدارك البشرية لما وراء ذلك مِن إدراك الحقائق كما هي في ذواتها، ناهيك عن إدراك ما هي عليه في علم الحق تعالى، فالبسيطة منها لا يضبطها العقل مجزَّأة؛ كالخير والجمال وما شابههما من الحقائق الكلية، وهي كثيرة.

‎وأما المركبة فيجزئها العقل عند ضبطها وإدراكها؛ كالحقيقة الحيوانية، والحقيقة النباتية، حيث تنقسم مثل تلك الحقائق مِن حيث إدراكنا إياها إلى أجزاء متميزة، بحسب الأجناس والفصول.

وما ذكرت هذه المقدمة إلا لعلمي بضرورتها عند من يطلب الحقائق لعلمه بانقسام العالم إلى حقائق وصور، والصور عبارة عن الخلائق؛ وإنما أطلق الله اسم الخلق على عالم الصور لوقوعه تحت حُكم البلاء وهو الخلق، من قولنا: خلُق الثوب؛ أي بلى.

‎ ولمَّا علمنا أن العالم عبارة عن كلمات الله التي لا تنفد، وأن كلامه المنسوب إليه لا يبلى كما لا ينفد، علمنا أن تلك الكلمات عبارة عن الحقائق لا الصور، وأن الصور عبارة عن رقوم تلك الكلمات، كما أن ما نرقم على تلك الصفحة ما هو إلا رسوم ورقوم لحقيقة مقصدنا فيما نتكلم به. ومتى علمتَ ما سبق علِمتَ أن لكلماته تعالى مراتب بحسب المقاصد كما هو الحال في كلام كل متكلم، وأن أصل كل كلام ما هو إلا كلمة سابقة في المرتبة؛ وإن تأخرت في الظهور، وهي عين مقصد المتكلم، خَفَت عن غيره في غيب صدره قبل تقدير بروزها باللفظ أو الكتابة.

‎ومن هنا نعلم أن كلام الله وإن كان صفته القديمة يظهر أول ما يظهر في غيب العالم، وأصل ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُۥ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾  [يس:82]. فكلمةُ الأمر واحدة من حيث الحقيقة والحق، منقسمة في العالم بحسب مراتبه في الظهور، وكل كلامه تعالى نور، فأول نور ظهر هو عين أول كلمة وحقيقتها؛ وهو حقيقة كل الحقائق؛ أو الحقيقة العلمية الأولى، أو حقيقة الحمد، إذ الحمد هو تعريف المحمود بما هو عليه مِن المحامد، ولذا اصطلحوا على تسميتها الحقيقة المحمدية؛ وهي حقيقة سيد الخلق؛ التي ظهر بها صلى الله عليه وآله وسلم لمّا خصه الحق تعالى بالكمال المحقَق، ليحق له الظهور بها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: « لستُ كهيئتكم ».

‎ ولما كانت هذه الحقيقة أول نور برز عن الحق تعالى في غيب العالم، وهي عين مقصد الظهور في عالم الإيجاد والنور، وقد علِم العالمون أن (كُن) أصل كل كلمة، سموا هذه الحقيقة، حقيقة الحقائق، أو الحق المخلوق به، فتلك هي الكلمة الأولى، ولا تحقُق بها ولا ظهور إلا لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك الحقيقة عبارة عن بذرة العالم وأصل الشجرة الكوني، كما كان آدم عليه السلام بذرة الشجرة البشرية.

‎ثم عن هذه البذرة المحمدية برزت ثمار الكلمات، فظهرت حقائق الملائكة الكبار، والرسل، والأنبياء، وأكابر الأولياء فيضًا إلهيًّا تامًّا، وتلك هي الكلمات التامات.

‎ثم إن طلب عِلم الحقائق أسمى المطالب لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « لكل حقٍّ حقيقة »، والحقوق على ثلاث شُعب؛ حق بين المرء ونفسه كقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إن لنفسك عليك حقًّا »، وحقٌّ بين المرء والعالَم، وحقٌّ بين المرء وربه.

‎ ثم إن حقيقة كل حق أو شيء؛ عبارة عن إنزال ذلك الحق أو الشيء منزلة الشهود، لذا قلتُ إن طلب علم الحقائق أسمى المطالب، إذ هو طريق التحقق بالحق، وإنما أشرتُ فيما سبق إلى الحقائق الكونية لقربها مِن الإدراك، وأمسكتُ عن الكلام في الحقائق الأسمائية لشهودها في الأحكام عند من شم رائحة الحقائق.

‎ثم أرجعُ وأقول إنَّ العالَم كلماتُ الله من حيث حقائقه، وأن صور تلك الحقائق عبارة عن نقوش تلك الكلمات، ولكن إدراك ذلك عسيرٌ إلا على أصحاب البصائر، وإنما اعتاص على غير العلماء إدراك الحقائق، كما اعتاص على الجاهل بلغةٍ أعجمية فهم ما تحويه صحيفة بتلك اللغة من الكلام.

‎ ولمّا كان الغرض من كلامنا في هذا الفن؛ على تنوع مسائله، معرفة سبيل الوصول إلى التحقق بحسب مشرب أهل التحقيق، الذين هم خلاصة خاصة أهل هذا الطريق، فأقول: لما تكلمنا عن الكلمات التامات سألني الخاطر النفساني: وهل في كلمات الله ما يكون غير تام؟ فقلتُ وبالله أستعين: لمّا كانت الكلمات عبارة عن الحقائق وكانت الصور على صنفين: صور جسمانية، وصور روحانية، ولكلِّ صنفٍ مراتب، كان التام من كلمات الله ما تطابقت فيه كمالات الصورة بكمالات الحقيقة، فكانت الحقيقة المحمدية أكمل الحقائق وأجمعها وهي الكلمة الأولى، وظهر تمامها في العالم بظهور كمالات سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم،  حيث قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهو الجامع لها على التحقيق كمالًا وتمامًا.

‎وكذا حقائق الملائكة والرسل والأنبياء تمت بظهورهم في عالم الصور إلى آخر تلك الحقائق، أعني حقيقة روح القدس الكلية، ومن هذه الحقائق حقيقة الإنسان الكامل، وجميع صورها في جميع الزمان من الكلمات التامات، وحقيقة روح القدس الكلية هي أصل الكلمات الروحانية الجزئية، وتلك الكلمات لا تكون إلا بظهورها في عالم الشهادة، وهي الكلمة الملقاة في رحم كل أم، وعنها تكون المواليد، ومن هنا؛ أعني من وجه نسبتها للصوَر في عالم المولدات كان نزولها عن رتب الكمال والتمام، لا من وجه نسبتها للحق تعالى.

‎ثم إن الله جعل لكل شخصٍ إنسانيٍّ قلباً ملكوتيًّا برزخاً بين الجسم والكلمة التي هي الروح الجزئية، وقد يؤيد الله من يختار بروح القدس فيطهره بإمدادات روحانية يدرك بها جمعيته لحقائق العالم، ومتى أدرك الشخص الإنساني حقيقة تلك الجمعية، بعد إدراك صورتها فيه، تعلق بها، ثم تخلَّق بأخلاقها، فإن تحقق بما شاهد، وتخلَّق بما اقتدى، صار صورة مفردة لحقيقة الإنسان الكامل، وقد يصل السالك إلى ذلك بطريق أسهل؛ وهو متابعة القدوة الكامل.

‎وقد تأدّب جماعة من الأولياء مع سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا هو الإنسان الكامل وهذا قولٌ حق، غير أن ذلك التأدب أوْهَمَ بعض الطلاب أن حقيقته صلى الله عليه وآله وسلم هي هي حقيقة الإنسان الكامل، ولكن الحقيقة أعطت أن كماله فاق الكمالات، وأن حقيقته جامعة لجميع الحقائق بما فيها حقيقة الإنسان الكامل، فحقيقة الإنسان الكامل التي هي الحقيقة الإنسانية أنزل في المرتبة، إذ لا يشترط في الكامل رسالة أو نبوة، فبان لنا أن حقيقة الإنسان الكامل حقيقة كلية مشتركة لكل إنسان، مودعٌ في استعداده إمكان تحققه بها، أما حقيقته صلى الله عليه وآله وسلم فهي كما نبهنا والسلام.