
العنقاء
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريأنَا الْعَنْقَاءُ لِي ذَرُّ الرَّمَادِ
وَلِي سِرُّ القِيامَةِ وَالْمَعَادِ
وقَبْلَ قِيامَتي فِي قَبْوِ قَبْلِي
خَفِيتُ كمَا خَفِيتُمْ فِي مِدَادِي
فإنْ أعْلَمْتُ بِي شَخْصًا فَإنِّي
ظَهَرْتُ بِمَبْدَئي فِي كُلِّ بَادِ
وَغِبْتُ بِشُربِهِ مِنْ عَيْنِ سِرِّي
لِيخْفَى ثُمَّ يَظْهَر في العِبَادِ
كَمِثْلِ الشَّمْسِ إذْ طَلَعَتْ وَوَلَّتْ
لِيَغْمُرَ نُورُهَا غَرْبَ الْبِلَادِ
كَأنَّ الكَّونَ في الإسْفَارِ ظِلِّي
وَفِي الأسْفَارِ خَيْرُ الزَّادِ زَادِي
الحمد لله، وبعد فالكلام في هذا النظمِ بلسان حال المرتبة الرابعة الإحاطية من مراتب الوجود الكوني، وهي مرتبة الهباء في الكتاب، وتُسمَّى العماء في السُّنَةِ.
والعماء عبارة عن السَّحاب، كما نبّه عليه سيّدُ الخَلقِ صلى الله عليه وآله وسلم، بما وَردَ في إجابته عن سؤال "أين كان الله قبل أن يخلق الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كان في عماء، ما فوقَه هواء، وما تحته هواء". أي ليس تحته هواء فيحمله، ولا فوقه فيسيره، والسؤال بأين لا يقصدون به الظرفية التي تعطي الحلول في المحل، بل هو سؤال عن وجود المرتبة، كما قال تعالى (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) [الزخرف:84]، فبانَ أنَّه تعالى فيهما برتبةِ ألوهيته.
والهباءُ المُشارُ إليهِ أصْلُ صوَر العالَم، وجَمِيعُ أكوَان العالَم ومَوْجُودَاتِهِ ذَرَّاتُ ذَلِكَ الهَبَاءِ، وكذلك يُصَيِّرُ اللهُ تعالى العالَمَ هباءً منبثًا، وقد اصطلحوا على تسمية تلك المرتبةِ بالعنقاءِ، والعنقاءُ طائرٌ أسطوري يُوصَفُ بطيرانِهِ إلى شَمْسِ الحقيقةِ، حتى إذا وَصَلَ اليها احْتَرَقَ كمَا يَحْتَرِقُ الفَرَاشُ بِالَّنارِ، فتدلّى رَمَادًا، فَإذَا اجْتَمَعَ هَذَا الرَّمَادُ عَنْ آخرِهِ بَعَثَهُ اللهُ طَائِرًا يسْعَى إلى شَمْسِ الحَقِيقَةِ حَتَّى يَحْتَرِقَ فِيهَا فَنَاءً وَيَتَدَلَّى رَمَادًا. وهو عِنْدَ اليُونَان طَائرُ الفينيق الأسطوري، وفى ثقافات الشرق طائر القوقنس.
فالعنقاء اصطلاحاً عند أهل طريقتنا عبارة عن الهباء؛ ويسمونه الحكماءُ الهيولَى الأولى؛ وهو مادة كل صورة، وله المرتبة الرابعة الإحاطية من المراتب المعقولة، وأولها العقل الأول وهو القلم، ثم النفس الكلية وهي لوح العالم، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم الكلِّي وهو جسم العالم، ثم شكله، ثم عرش العالم لا العرش العظيم ولا عرش الله الذي هو قلب العبد المؤمن، ثم الكرسي، وفى باطن الكرسي خلق الله السموات والأرض، وأدار الأفلاك وحرَّك فيها الكواكبَ فأوجدَ الزمان نِسَبًا حاصلةً عند حركات الكواكبِ في أفلاكها.
ثم إن كل ما خلقه الله تعالى قبل دوران الأفلاك فإنما يكون تقدُّمه أو تأخره عن بعضه البعض بالمرتبةِ لا بالزمانِ لعدم حدوث الزمان، فلا نعقل له تقدم أو تأخر إلا من حيث المراتب مما يشهد به النقل، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سأله جابر رضي الله عنه وأرضاه، ما أول شيءٍ خلقه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "نور نبيك يا جابر".
وقد يطلقون اسم الهباء ويقصدونَ به نفَس الرحمن، أي الفيض الرحماني الذي نفّس به سبحانه على العالَم فأخرجه مِن ظُلمة العدم إلى نور الوجود، وأوّلُ صورة انفتحت في ذلك النفَس الرحماني صورة الحقيقة المحمدية، وفى باطنها جميع صور العالم، كما أنَّ جميع حقائقِهِ في باطن الحقيقة المحمدية التي وقف جميع الأنبياء والمرسلين ببابها؛ وسجدتْ عقولُ الخلائق على أعتابها.
وكان الحق تعالى ولا شيء معه، كنزًا مخفيًّا، فلمَّا أحبَّ أن يُعرفَ أفاض نورَ وجودِهِ على مراتب العدَمِ فأعدمه، وصار ذلك النور له كالمرايا بحسب تلك المراتب جمعًا وتفصيلًا، فظهرت صورته في المرايا، وسمَّى ما ظهرَ خَلْقًا، فكان أقرب ما ظهرَ مِن الصور أول الخلق رتبةً وأجمعه حقيقةً لِمَا ظهرَ فيه من أمهات الصفات التي هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، وقد تجلت فيه جميع صفات الحق تعالى في صورة أحدية جمع الصفات، ولذا قال الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي أن الأحدية عبارة عن صفة التعين الأول، وكانت الحقيقةُ الجامعةُ أحمدية لكونها أعرف الحقائق باللهِ وأحمدهم له، وكانت محمدية لما فيها من جمعية صفاته المحمودة في رتبتها الخلقية، وقد يطلقون على هذه الحقيقة القلم الأعلى والعقل الأول وحقيقة الحقائق.
ثم إن الحق تعالى تجلى بسائر أسمائه وصفاته إلى مرآة الوجود، فكل ما انطبع فيها سماه خلقًا وحقيقةً كونية؛ لكونِهَا على صورةٍ حقيقةٍ إلهيَّة، فتجلَّى باسمِه السميع، فخلق حقيقةَ السمع، وبالبصير خلق حقيقة البصر، وبالرّزاق الرزق، وهكذا بكل الأسماء، ثم كانت له شئون مع تلك الحقائق الكونية ففاضت أنوارًا خلقَ منها عالَمَ الأرواحِ على مراتبِهِ، ثم خلقَ السماوات والأرض من الطبيعةِ وعناصرها، وأسكن مَن شاء مِن أرواح ملائكته في السماواتِ والأرض، وخلق النبات والحيوان والإنسان وهو آخر مراتب الخلق.
وكما خلق الحقيقة المحمدية على صورةِ جمعية صفاتهِ، واللوح على صورة علمه في خلقهِ والطبيعة على صورة اسمه الباطن، والهباء على صُورة اسمِه الأخِر وهو نَفس الرحمن، خلق الإنسان على صورة حقيقة الجمعية، فطابق الأول في الخلق رتبةً الأخِرُ فيهم رتبةً وكملت الدائرة، والله أعلم.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ و آله وصحبه وسلم.