
السُّلُوك
الشيخ. أيمن حمدي الأكبريالحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ رسول الله، وعلى آله، وبعد...
فإن الطريق إلى الله هو الشرع المُنزَّل، أما الطريقة فعبارة عن كيفية السلوك على الشرع، وقد ورد لفظ الطريقةِ مُعرَّفًا مرَّةً واحدةً في القرآن الكريم، وهو قوله تعالى حكايةً عن الجن}وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا{[الجن:16]، كما جاء مرةً غير معرَّف في قوله تعالى:}إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا{[طه:104]، قال الطبري:حدَّثنا ابن حميد، قال:ثنا يعقوب، عن جعفر، عن شعبة، في قوله: }إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً{أوفاهم عقلا، فالطريقةُ وتمام العقل متلازمان، كما كان العقلُ مناط التكليف، وفي أول الآيتين إشارةٌ لمن وعى.
فالطريقةٌ برزخٌ بين الشريعةِ والحقيقةِ، ومِن خاصيةِ البرزخِ أن يقابل الوجهين بذاته، قال تعالى}مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَان{[الرحمن: 19 - 20]، البرزخُ إذًا يعطي اتصال البحرين مع عدم طغيان أحدهما على الآخر؛ هذا مِن خاصية البرازخ، فمن وجدَ في الطريقة طغيانًا لأحد البحرين فمِن حيث سلوك الشخص لا من حيث حُكم الطريقةِ وبرزخيتها، فليست طريقة سلوكِ كلِّ أحدٍ على الطريق هي عين طريقةِ الشيوخ من العلماء العاملين الذين أصَّلوا المناهج وبينوا المشارب، كسيدي أبي الحسن الشاذلي، وسيدي عبد القادر الجيلاني وسيدي الرفاعي والشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، ومن حذا حذوهم أو جدد للناس وعبَّدَ لهم معالم طرقهم.
والحقُّ أقولُ إن عِلمَ البرازخَ مِن العلوم اللازمة لسالك طريق القوم، ولا يكون الخوض في هذا الميدان بغير عِلْم، بل هو مِن أجَلِّ علوم الدين كما هو مشهور بين أهل طريقتنا المُثلى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث تمَثُّل جبريل عليه السلام:هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم.فجَعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينَ عِلْما، وفي الحديث أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، ولا يتحقق ذلك إلا بالخيال، والخيال برزخٌ عظيم، فبان لنا وجهٌ مِن البرزخية المشار إليها.
قال الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي في كتاب التجليات:الحمدُ لله مُحَكِّم العقل الراسخِ في عالم البرازخِ، بواسطة الفكرِ الشامخِ، وذِكْرِ المجدِ الباذخ. (انتهى)
فلا يصح السلوك بطريقة الولوج في عالم البرازخ إلا بعقلٍ تامٍ راسخٍ مُتمَكِّن مِن قوتي الفكرِ والذكر، وقد وصف الفكر المطلوب بالشموخ، والشموخ العلو والارتفاع بحيث يشرف السالك بفكره العالي على ما قابله علوًّا وسُفلا، قال تعالى: }وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا{[المرسلات:27]أي جبالٌ عالياتٌ مُشرفات، فهذا وصفُ فِكر السالكِ طريق الحقِّ على طريقةِ القوم.
ولمَّا كان من خاصية البرزخِ الجمع بين العالمين، حتى يرى النائم في عالم الخيال الأمس واليوم والغد، كما يرى الدنيا والآخرةِ، والجنَّةَ والنار، بل قد تتمثَّل له المعاني في صور الأشخاص والأكوان، ومنها العلوي والسفلي، كان الذِكرُ مِن أسباب رسوخ العقول في البرازخ، وهو قول الشيخ الأكبر:وذِكر المجد الباذخ؛ أي وبواسطة ذكر المجد الباذخ، والمجد لا يكون على التحقيق إلا لله، والباذخ يعني العظيم، فمن خاض بعقلٍ راسخ مستندًا إلى فِكرٍ شامخ، مستحضرًا ذِكر المجد الباذخ؛ كُتب له التمكين في عالم البرازخ، وهذا حال الأكابر من أهل هذه الطريقةِ، التي لا تكتمل إلا بالعلم والعمل، جعلنا الله ممن انتفع بها فاكتمل.