السنة الأولى ذو الحجة 1442 هـ - يولية 2021 م


عبد الله أبوذكري
الحركة بركة: من وحي مناسك الحج
عبد الله أبوذكري

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يهل علينا في قابل الأيام شهر ذي الحجَّة، وقد تمنع الكورونا إتاحة الحج لشريحة كبيرة من المسلمين، فنسأل الله العظيم أن يمنّ علينا وعلى الأمّة بالعافية وأن يصرف البلاء والوباء. وإذا ذُكر الحَجّ هامت القلوب وتشوَّقت الأرواح للطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة وزيارة الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وآله وسلَّم. والحجّ من الشعائر العجيبة، تكثر فيها الرمزيّة والدلالات الربانيّة على الوحدانيّة، ويعلّمنا فيه ربنا سبحانه وتعالى معاني كثيرة، كأنّها عِقد نور كلّما أخذت حبَّة انسالت إليك الأخرى، معانٍ شريفة لا تنتهي.

ومن هذه المعاني الجليلة الجميلة نعمة الحَرَكَة، وقد جعلها الله تعالى صورة ومظهرًا للصلاة التي هي عماد الدين، فجعل الركعة في صورة الحركات ما بين القيام في سكون والركوع والرفع والسجود والجلوس، ولم يجعلها على هيئة واحدة من السكون، بل جعلها جامعة بين الحركة والاطمئنان في السكون، وإذا جئنا لشعائر الحجّ الشريفة وجدناها قد شُيِّدَت على حركة المشي، فالطواف الذي هو أخو الصلاة هو عبادة المشي في خشوع لله تعالى حول بيته الحرام والكعبة التي جعلها قبلة للناس، ثم تعبّدنا بالهرولة وهي إسراع المشي، وجعل المشي بين الصفا والمروة «سعيًا»، فإلى أي شيء «نسعى»؟ هل نسعى من الصفا للمروة؟، ولماذا نبدأ من الصفا؟ قال بعض أهل الله: «من صفا يُروى»، وفيها إشارة إلى التخلِّي من القبيح والتحلِّي بالصحيح، فمن صفا من الأكدار رُوُيَ بالأسرار والأنوار، وهذا «السعي» يكون مشيًا ثم هرولة في بعضه، وكأنّ في هذا المشي سِرٌ رباني ومعنى يجب التنبّه له.

وإذا تأمّلنا المشي في الشريعة وجدناه موجودًا في المشي للصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح» أخرجه البخاري ومُسلم، وقال أيضًا «أعظمُ الناسِ أجرًا في الصَّلاة أبعدُهم فأبعدُهم ممشًى» أخرجه مُسلم، إذا السِرّ في المشي؟، وقال أيضًا: «مَن تطهَّرَ في بيتِه، ثم مَشَى إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ؛ ليقضيَ فريضةً مِن فرائضِ اللهِ، كانتْ خُطواتُه: إحداهما تحطُّ خطيئةً، والأخرى ترفع درجةً» أخرجه مسلم. وقال: «ألَا أدلُّكم على ما يَمْحو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بلي يا رسولَ الله، قال: إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجدِ»، فيشير صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضل المشي إلى المساجد، حتى يرفع الله الدرجات ويمحو الخطايا للمسلم بكل خُطُوة!، فهل الفضل في المساجد فقط أم في حالة المشي لله وبالله ذاتها؟ وعندها تكثر المقاصد الحسنة في الظاهر والمقصد واحد، فالله مقصود الكُلّ. فعن ابن عبّاس مرفوعًا: «من مشى في حاجة أخيه كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين) رواه الطبراني في الأوسط. وإذا جمعنا هذا مع الطواف والسعي، تبيّن لنا أن للمشي سِرًّا مُباركًا، جعله الله فيه حتى يجعله مظهرًا من مظاهر إقامة الشعائر.

فهذا المشي في الطواف والسعي وإلى المساجد وفي حوائج الناس، فهو صلى الله عليه وآله وسلَّم يحثنا على المشي والحركة حتى نُحصِّل الخير والبركة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِۦ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾[المُلك:15] فذكر الله تعالى المشي وجعله من أسباب الرزق!، فأي فضل وبركة في هذه العبادة؟، فهيا بنا نأخذ من دروس الحجّ أن المشي لله وبالله يحبه الله ورسوله، ومنه المشي كرياضة لصحة البدن وعافيته ودوران الدمّ والتفكر والتدبُّر، وأرشدنا سبحانه وتعالى إلى أنه إذا أراد بعبد خيرًا وفقه وخلع عليه من النور ما يمشي به في الناس: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى النَّاسِ﴾[الأنعام:122] فلمّا كساه سُبحانه هذا النور، أراد منه الحركة والمشي به بين الناس، فبان لنا فضل المشي والحركة.

وقد لخَّص المصريّون هذه المعاني الراقية اللطيفة في كلمتين خفيفتين: «الحركة بركة»، وهما من عجيب التراكيب، فإن الحركة والبركة بغير «حُب» تكونان «ركة» من الركاكة، وهي الضعف والوهن والهُزال، وكأنّ الحركة والبركة شيء واحد، فالحركة تُحب البركة والبركة تُحب الحركة!، هذا لأنّ الحركة قد بدأت بالحاء والبركة بالباء، فكانا معًا بالحُب، وكان مشي المُحب لله وبالله من أقرب القُرُبات، مشي للمسجد أو حول الكعبة أو بين الصفا والمروة أو في حاجة أخيه أو في حاجة بدنه يعين نفسه بالصحة والعافية، فاجعلوا يا عباد الله وِردًا من المشي لله، واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون.