
الاحتفال بالمولد الشريف بين أدلة المحبين وشبهات الغافلين
د. مختار محسن الأزهريفي شهر ربيع الأنور من كل عام تهب نسماتُ المحبة والشوق إلى رحاب سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فكل من عرف شيئًا من مقامه الشريف وفضله المُنيف لا بد أن يكون مستعدًا للفرح والتعبير عن المحبة الخالصة لهذا الإنسان الكامل الذي اصطفاه ربُّه ليكون للعالمين رحمة، وللمتقين إمامًا، وللجنة قائدًا.
ورغم وضوح هذه المعاني في قلوب المحبين بما لا يدع مجالًا للشك في أن الاحتفال بمولده الشريف هو من أعظم القربات عند الله؛ إلا أن حكمة الله في خلقه اقتضت أن يكون منهم من استولت عليهم الغفلة واستحوذت عليهم الأهواء حتى وصفوا الاحتفال بمولده الشريف بالبدعة في الدين، واتهموا جماهير المسلمين من العلماء والمحبين بالمبتدعة الضالين، وأغرق بعضهم في الزيغ والجهالة حتى وصف الاحتفال بمولده الشريف بالذريعة للشرك الأكبر المخرج عن الملة!([1]) وهو قول يدلنا على تلاعب الشيطان بأمثال هؤلاء الجاهلين الذين يسهل عندهم وصف المؤمنين الموحدين بالكفر والضلال لمجرد مخالفة أهوائهم السقيمة وأفكارهم الذميمة.
وإذا رجعنا إلى دائرة المحبين وأولياء الله الصالحين فإننا نجدهم يتمسكون بالنصوص الشرعية ويعتمدون على الأدلة المرعية، وذلك على عكس الجاهلين المتنطعين الذين يتمسكون بالعدم ويعتمدون على الأوهام والشبهات.
فإننا إذا سألنا أحد هؤلاء المنكرين ما الذي حملك على تبديع المسلمين في احتفالهم بسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال لك: إنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتفل بيوم مولده ولا الصحابة الكرام.
وهو تمسك بما ليس بدليل شرعًا؛ فمن المقرر عند جماهير علماء الأمة أن مجرد عدم الفعل من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على المنع فضلًا عن عدِّه بدعة؛ ولم يقل أحد من الأئمة المتبوعين الثقات: إن مجرد ترك فعل معين من قِبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تحريم لذلك الفعل! وهو ما فصَّله وبينه شيخ شيخنا الإمام المجتهد الأصولي سيدي عبد الله بن الصديق الغماري الحسني في رسالته "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك"حيث قال: والترك وحدَه إن لم يصحبه نصٌ على أن المتروك محظور لا يكون حجة في ذلك بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروع، وأما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليل يدل عليه"([2]). اهـ.
فلا دليل لديهم إذن على تحريم ومنع الاحتفال بالمولد الشريف، وفي المقابل إذا طالعنا كلامَ العلماء والأولياء والمحبين سنجد عشرات الأدلة والبراهين التي لا يكفي فيها ذلك المقال ولا غيره؛ إذ شواهد تعظيمه وتوقيره أكثر من أن يعدها العادُّون.
ومن أوضح هذه الأدلة وأظهرها أن المولد الشريف ما هو إلا تعظيم ليوم معظم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عظمه بالفعل سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال: "ذاك يومٌ ولدت فيه"([3])
وأول ما نلحظه في هذا الحديث المبارك هو إشارته لهذا اليوم باسم الإشارة "ذاك" الذي يفيد في الأمور المعنوية التعظيم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بالإشارة لتعظيمه وحسب، بل إنه استوعب هذا اليوم بعبادة الصوم؛ شكرا لربه على هذه النعمة ونظير ذلك ما شرعه صلى الله عليه وآله وسلم من صوم يوم عاشوراء؛ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» فصامه صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"([4]).
قال الحافظ ابن حجر كما نقل عنه الإمام السيوطي: " فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟!" ([5])
فهذا هو فهم علماء الأمة أن يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى ينبغي شكرها بمقتضى أدلة الشرع الدالة على شكر النعمة وتعظيمها؛ إبقاء لبركتها، وطلبًا لمزيدها كما قال تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]
وإنه لمن المستغرب أن يجادل أحد في مشروعية الاحتفال والفرح بهذا اليوم بعد أن نقل كثير من العلماء اجتماع المسلمين في أعصر متتالية على هذا الاحتفال والفرح بالمولد الشريف على نحو ما قررناه من الفرح والشكر والعبادات المشروعة في كل وقت وهو ما يجعل تمسك المنكرين بأفعال بعض من يحضرون المولد أو الاحتفال فيقع منهم بعض المخالفات نوعًا من الجدل غير السديد لأن الكلام عن أصل المولد وإقرار الشرع له وليس عن ارتكاب بعض المسلمين مخالفات فيه؛ وإلا لمنعنا الحج لوجود من يرتكب بعض المنهيات فيه!
وعلى كل حال فقد أغنانا حبُّنا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن أن نصغى لشبهات بعض العطالين الذين يريدون منع ذكر الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وقراءة سيرته والفرح به صلى الله عليه وآله وسلم ببعض الشبهات الواهية.
والمنقول عن أئمة الدين أن الاحتفال به صلى الله عليه وآله وسلم هو الأصل المقرر عند أهل الإسلام؛ بحيث يمكن أن يقال: إن البدعة في الحقيقة هي القول بمنع المولد والنهي عنه وليس العكس
قال الحافظ السخاوي في الأجوبة المرضية: " ما زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وآله وسلم وشرَّف وكرَّم يعملون الولائم البديعة، المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات، بل يعتنون بقراءة مولده الكريم، وتظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، بحيث كان مما جُرب"([6]) اهـ.
ومما يتمسك به المحبون أيضًا ما ذكره الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه "مورد الصادي في مولد الهادي صلى الله عليه وآله وسلم" -فيما نقله الحافظ السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" -: "قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذابُ النار في مثل يوم الإثنين؛ لإعتاقه ثويبة؛ سرورًا بميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، ثم نقل عنه قوله:
إذا كان هذا كافــرًا جاء ذَمُّـــــــــــــــــــهُ ... وتبَّتْ يداه في الجحـيم مُخَلَّدا
أتى أنه في يوم الاثنـــــــــــــــــين دائمًـــا ... يخفف عنه للسرور بأحمـــــــدا
فما الظنُّ بالعبد الذي كان عمرَه ... بأحمدَ مسرورًا ومات موحدًا "([7])
وهذا من أوضح الدلائل على فضل الفرح بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم !
وقد نقل الإمام المؤرخ الصالحي في كتابه "سُبُلُ الهُدى والرشاد في سيرة خيرِ العِباد" عن الإمام الشيخ أبي موسى الزّرهونيّ -وكان من الصالحين- أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، فشكى إليه مَن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن فرِح بنا فَرِحنا به"([8]).
فهذه بعض الشواهد والأدلة التي تشير إلى فضل الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة وإن كان المحب لا يحتاج إليها لكنها شاهدة عدل على توفيق الله للمحبين وشاهدة كذلك على إجحاف المنكرين نسأل الله أن يرزقنا دوام المحبة وأن يجعل تلك المحبة شاهدة لنا يوم الدين وأن يشفع فينا حبيبنا ونبينا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله وسلم.
[1]ينظر : الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان صـ333 ط.ابن الجوزي، المولد النبوي: هل نحتفل؟ شحاتة محمد صقر صــ32 دار الخلفاء الراشدين -الإسكندرية
[2]انظر رسالة: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك للحافظ عبد الله الغماري صـ11 ط.مكتبة القاهرة.
[3]صحيح مسلم كتاب الصوم، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل أسبوع ، حديث رقم: 1162
[4] متفق عليه
[5]الحاوي للفتاوي للإمام السيوطي 1/229 ط.دار الفكر
[6]الأجوبة المرضية 1/1116، ط. دار الراية
[7]الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/230)
[8]سبل الهدى والرشاد للصالحي 1/363، ط. دار الكتب العلمية