السنة الخامسة ذو الحجة 1446 هـ - يونية 2025 م


الشيخ. حجاج مصطفى عبد العال
الكتاتيب في مصر: تاريخ من نور القرآن والعلم
الشيخ. حجاج مصطفى عبد العال

من شباب الصديقيّة

مقدمة

الكتاتيب في مصر ليست مجرد مؤسسات تعليمية تقليدية، بل هي معالم راسخة في ذاكرة الأمة الإسلامية، كانت ولا تزال منارات للعلم والدين. نشأت في أحضان المساجد، وتخرج فيها جيلٌ من العلماء والحفاظ، وكانت اللبنة الأولى في بناء الشخصية المسلمة المصرية. وهذا البحث يسلّط الضوء على مراحل تطور الكتاتيب في مصر، مع توثيقها بالدلائل والروايات التاريخية.

النشأة والتأسيس

يعود أصل الكتاتيب إلى عهد سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حين اتخذ المسجد النبوي مركزًا لتعليم الصحابة، وكان زيد بن ثابت من أبرز كُتّاب الوحي ومعلمي القرآن. وبعد غزوة بدر، فدى بعض أسرى قريش أنفسهم بتعليم أطفال المسلمين الكتابة (رواه ابن إسحاق في السيرة)

 وجاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه شعيب الأرناؤوط ولفظه: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بِذِحْل بدر(يعني: بثأر) والله لا تأتيه أبداً. وجاء أيضاَ في سنن البيهقي بهذا اللفظ، وذكر في أكثر كتب السيرة أيضاً.

ومع دخول الإسلام مصر سنة 20 هـ على يد سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، بدأت الانطلاقة الكبرى للكتاتيب في مصر، فبدأ تعليم القرآن في المساجد، ثم تطورت الأمور إلى ظهور الكتاتيب كأماكن مخصصة لتعليم القرآن الكريم انتشرت بقوة في جميع الربوع المصرية، حيث كانت الكتاتيب المصرية تقام في مبانٍ ملحقة بالمساجد أو مبانٍ مستقلة بذاتها، وكان عادة يجلس المعلم على مصطبة أو كرسي مرتفع قليلا عن الأرض، وكان التلاميذ يلتفون حوله على الأرض على بعض البسط المصنوعة من الحصير .

أما العاصمة "القاهرة" فانتشرت فيها بشكلٍ أكبر الكتاتيب التي تعلو السُبل، مثل سبيل وكُتَّاب "عبد الرحمن كتخدا"، الذى بُنى عام 1744 في شارع المعز لدين الله الفاطمي لمصممه الأمير عبد الرحمن كتخدا عبقري الهندسة المعمارية في عصره، وهو عبارة عن سبيل يشرب منه المارة يعلوه كُتَّاب يتلقى فيه الطلاب العلم ، ويذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" أن الكتاتيب انتشرت في القاهرة منذ العصر الفاطمي، وربطها الحكام بالمساجد والزوايا.

العصر المملوكي والذهبي للكتاتيب

في العصر المملوكي، بلغت الكتاتيب ذروتها من حيث التنظيم والدعم. كانت الأوقاف (مؤسسات الوقف الخيري) تموّل الكتاتيب، ويُعطى المعلم راتبًا يُسمى "الجراية". وأورد ابن خلدون في مقدمته أن الكتاتيب كانت وسيلة لتعليم النُّشء القرآن والخط وبعض مبادئ الحساب.

ويُروى أن السلطان الظاهر بيبرس أمر بإنشاء كتاتيب في المدن والقرى، وأنشأ دارًا للأيتام تُعلَّم فيها القراءة والكتابة والحساب.

أشهر المعلمين في الكتاتيب

اشتهر عدد من المعلِّمين في الكتاتيب وذاع صيتهم منهم :

الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان مؤدبًا ومعلمًا للصبيان في الطائف، ويحفّظهم القرآن، وكان ذلك قبل التحاقه بجند عبد الملك بن مروان .

الضحاك بن مزاحم، وعُرِفَ عن الضحاك بن مزاحم أنه كان مُؤَدِّبًا للصبيان في أحد كتاتيب الكوفة، وكان لديه ثلاثة آلاف صبي .

أبو القاسم البلخي، فقد روى ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) أن كُتَّاب أبي القاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان فسيحًا جدًّا يَتَّسِعُ لهذا العدد.

أبو الغنائم المسلم بن الحسين بن الحسن، قال عنه ابن عساكر: "اشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب حتى كثر زبونه"

وقد تعلم كثير من كبار الفقهاء والعلماء في الكتاتيب في صغرهم، فيحكي الإمام الشافعي عن مرحلة الكُتَّاب في صغره فيقول: "كنت يتيمًا في حجر أُمِّي، فدفعتني في الكُتَّاب، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنتُ أُجَالِس العلماء".

ونتيجة لمهارة بعض هؤلاء المعلمين والمؤدبين فقد ترقّى بعضهم في وظائف الدولة حتى صار وزيرًا، مثل إسماعيل بن عبد الحميد الذي كان يعلِّم الصبيان، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرًا لمروان بن محمد، وكذلك الحجاج بن يوسف الثقفي الذي صار كبيرًا لوزراء عبد الملك بن مروان .

وكان للكتاتيب بالقرى والنجوع الفضل الأول في تخريج أعلام قراء القرآن الكريم في مصر، حيث تخرج الرعيل الأول والأوسط دولة التلاوة المصرية أمثال المشايخ "محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومصطفى إسماعيل، ومحمود على البنا، والطبلاوي، والسيد متولى ، والليثي" وأخرين من عمالقة التلاوة من الكتاتيب المصرية، فالكُتاب هو الأصل لكل من أراد أن يحفظ القرآن الكريم، والكتاب هو معمل لتخريج العظماء من القراء والعلماء، وحافظ القرآن في الكتاب هو حافظ مجيد ومقرئ

 في إحدى قرى الصعيد، يُحكى عن الشيخ عبد الجواد النجار في بداية القرن العشرين، الذي خرّج أكثر من مئتي حافظ للقرآن من بيته الذي اتخذه كُتابًا. وكان يمرّ على البيوت بنفسه لتشجيع الأمهات على إرسال أولادهن، ويكافئ الحافظ بخاتم فضة، وهو ما يُروى حتى اليوم من طلابه في قرية "الحميدات" بمحافظة قنا.

ومن القصص المؤثرة، ما ذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي في إحدى حلقاته، أنه تعلم في كتاب قريته بـ "دقادوس"، وغرس فيه شيخُه حبَّ القرآن، فكان هذا الكتاب هو بوابة الشعراوي إلى الأزهر.

الكتاتيب الحديثة

رغم انتشار المدارس النظامية، لا تزال الكتاتيب قائمة في مصر، خاصة في الريف والصعيد. وبدأت تتحول إلى مراكز تعليمية متطورة بإشراف الأزهر الشريف. ففي عام 2018، أطلق الأزهر مبادرة "الكتاتيب النموذجية" التي تجمع بين المنهج التقليدي والوسائل التعليمية الحديثة.

وتدعم وزارة الأوقاف إنشاء "الكتاتيب الإلكترونية" عبر الإنترنت، مما أسهم في إقبال كبير من أولياء الأمور.

الخاتمة

الكتاتيب في مصر ليست فقط مؤسسات تحفيظ، بل إرث حضاري ودعوي وتربوي. وقد أثبتت قدرتها على التأقلم مع متغيرات العصر، محافظة على رسالتها: ربط الأجيال بالقرآن الكريم، وتربية النشء على القيم الإسلامية.