
الإلهام عند الصوفية
د. مها سميرتشير معاجم اللغوية إلى أن الإلهام والوحي لغة يتفقان في أن كلًّا منهما إعلام في خفاء، وأنهما وردا بهذا المعنى اللغوي في القرآن في قوله تعالى: فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا [الشمس: 8] وقوله تعالى: وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ [النحل: 68]، وأَلْهَمَه اللَّهُ خَيْرًا: لَقَّنَه إِيّاه. واسْتَلْهَمَه إِيّاه: سأَله أَن يُلْهِمَه إِيّاه.
أما من حيث الاصطلاح فقد فرقوا بينهما بأن الوحي مخصوص بالأنبياء ويأتي به الملك؛ ولذلك اعتبروا الوحي من قبيل الكشف الشهودي المتضمن للكشف المَعْنَوِيّ لأنه إِنَّما يحصل بِشُهُود الملك وسماع كلامه، في حين اعتبروا الإلهام من قبيل الكشف المعنوي لأن المـُلْهَم لا يُشاهد، والوحي من خَواص النُّبُوَّة والإلهام أعم والوحي مَشْرُوط بالتبليغ دون الإلهام. ويُقال: (فلان مُلْهم) إِذا كان يَعرف بمزيد فطنته وذكائه ما لا يُشَاهِدهُ، ولا يُراد به إلهام الخواص إلا إن ورد على الروح لا النَّفس مع قدسية الوارد.([1])
ولذلك يعرف السيد الشريف الجرجاني (ت816هـ) الإلهام بأنه: "ما يلقى في الروع بطريق الفيض. وقيل: الإلهام: ما وقع في القلب من علم، وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة، وهو ليس بحجة عند العلماء، إلا عند الصوفيين". ([2])
فما مدى اعتبار الإلهام عند السادة الصوفية؟
يقول أبو يزيد البسطامي / (ت261هـ): "لو نظرتم إلى رجل أُعطى من الكرامات حتى يرقى في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند: الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة".([3]) وهو ما أكد عليه الجنيد سيد الطائفة / (ت298هـ) بقوله: "إذا رأيتم شخصًا متربعًا في الهواء، فلا تلتفتوا إليه إلا إذا رأيتموه مقيدًا بالكتاب والسنة."([4]) وبقوله: "الطرق كلها مسدودة على الخلق؛ إلا على المقتفين آثار رسول الله".([5]) وفي ذلك يقــول الهجويري / (ت465هـ): "اعلم أن جملة مشايخ هذه الطريقة مجمعون على أن: الأولياء في جميع الأوقات والأحوال متابعون للأنبياء، ومصدقون بدعواتهم ... ولا يختلف في هذا أي أحد من: علماء أهل السنة ومحققي هذه الطريقة"([6])
ويفصل الإمام الشعراني / (ت973هـ) هذا المعنى فيقول: "ليس لتابعٍ علم من غير دائرة علم متْبُوعه أبدًا، كما أن كشف الأولياء لا يتعدى: كتاب نبيهم وسنته أبدًا. وبتقدير أنه يأتينا بعلم من طريق كشـفه؛ لا يجوز لنا العمل به إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة ومُوافقته لهما".([7]) فالولاية: "وإن جلت مرتبتها وعظمت، فهي آخذة عن النبوة: شهودًا ووجودًا؛ فلا تلحق نهاية الولاية بداية النبوة أبدًا. ولو أن وليًّا تقدم إلى العين التي يأخذ منها الأنبياء لاحترق. وغاية أمر الأولياء أنهم يتعبدون بشريعة محمد: قبل الفتح عليهم وبعده، ومتى ما خرجوا عن شريعة محمد هلكوا، وانقطع عنهم الإمداد؛ فلا يمكنهم أن يستقلوا بالأخذ عن الله أبدًا".([8])
وغاية الولي: "الإلهام الموافق لشريعة محمد بعد الفتح؛ فلا يعمل به مستقلًا؛ لأن نبوة التشريع قد انقطعت بموت رسول الله فيصير ملك الإلهام: يُفهِم ذلك الولي شريعةَ محمد ، ويطلعه على أسرارها حتى كأنه أخذها عن رسول الله بلا واسطة. فإذا صح للولي قدم الأخذ عن رسول الله من غير واسطة؛ فهناك يصح أن يُرشد الأمة المحمدية، ويتصدر لدعائهم إلى الله بحكم النيابة عن رسول الله، قال تعالى ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾".([9])
ولذا كان أساس الطريق إحكام علوم الكتاب والسنة حتى إن الإمام الشعراني يقول معلقًا على مقولة حجة الإسلام الغزالي (ت505هـ) -بعد أن ذاق طريق القوم-: ضيعنا عمرنا في البطالة؛ لما في الاشتغال بالعلم على طريق أهل الجدل من غلبة القول على العمل: "والحق أن الاشتغال بالفقه ليس هو ببطالة، إنما هو أساس للطريق؛ فإن من شأن أهل الطريق أن يكون جميع حركاتهم وسكناتهم محررة على الكتاب والسنة. ولا يُعرف ذلك إلا بالتبحر في علم: الحديث، والفقه، والتفسير. فقول الغزالي: إن الاشتغال بالفقه بطالة، إنما هو كلام صدر حال عشقه في طريق القوم، والعاشق حكمه حكم السكران. ولو أنه تأمل في حاله لعرف ما قلناه من أن: الفقه أساس الطريق، وأن غاية الصوفي أنه عالم عمل بعلمه لا غير." ([10])
ومن هذا يظهر أن الولي واجب فيه أمران: الأول: أن يكون متبعًا للنبي ساعيًا للوفاء بحقوق الله، متابعًا لذلك على الدوام. والثاني: أن يكون في حفظ الله دائمًا فلا يَكِلَهُ إلى نفسه أو إلى غيره، كما نص على ذلك الإمام القشيري / (ت465هـ) بقوله: "فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع".([11]) والشيخ الهجويري / (ت465هـ) الذي يقول أن من زعم أن للعبد أن يلتزم الخدمة بأداء التكاليف، وفعل الطاعات؛ حتى يصل إلى درجة الولاية، فإذا صار وليًّا ارتفعت الخدمة، "وهذه ضلالة، ولا يوجد في طريق الحق أي مقام يرتفع فيه أي ركن من أركان الخدمة"([12])
إذن فالذي يعطي الإلهام عند الصوفي اعتباره وحجيته في إفادة المعرفة ليس مجرد ورود الإلهام على القلب بل موافقة هذا الوارد للكتاب والسنة. وليس هذا فحسب بل إن التفرقة العملية بين وارد وآخر وهل هو وارد إلهي أو شيطاني إنما هو بتحري الحلال فالاتفاق معقود بين الصوفية "على أن من كان أكله من الحرام لم يفرق بين الإلهام والوسواس"([13]).
[1] ابن منظور، لسان العرب: مادة/ ل ه م، ومادة/ و ح ي، أبو البقاء الكفوي، الكليات: ص173.
[2] السيد الشريف الجرجاني، التعريفات: ص34.
[3] الإمام القشيري، الرسالة: ص 64.
[4] الإمام الشعراني، اليواقيت والجواهر: 2/ 93.
[5] الإمام الشعراني، اليواقيت والجواهر: 2/ 93.
[6] الهجويري، كشف المحجوب: ص 474.
[7] الإمام الشعراني، اليواقيت والجواهر: 2/95: 96.
[8] السابق: 2 / 71.
[9] الشعراني، اليواقيت والجواهر: 2/ 71: 72. والآية رقم 108 من سورة يوسف.
[10] الإمام الشعراني، اليواقيت والجواهر: 2/92: 93.
[11] القشيري، الرسالة: ص 436.
[12] الهجويري، كشف المحجوب: ص453.
[13] القشيري، الرسالة: ص 170؛ والسهروردي، عوارف المعارف: ص 419.