السنة الثانية جمادى الآخرة 1444 هـ - يناير 2023 م


حسن جابر
لماذا تصوَّفتُ؟
حسن جابر

لا أنسى تعنيفَ مُدير مدرستي ذات الطابع الإسلامى لي ولزملائي بعد خسارة مدرستنا فى مسابقة أوائل الطلبة أمام فريق مدرسة "الراهبات الفرنسيسكان"، تقريعٌ مؤلم لازلت أذكره ليس لمُجرد خسارتنا بل لأن مدرستنا الإسلامية خسرت أمام المدرسة غير الإسلامية.

 بهذا التصوير الطائفى الذى تربينا عليه فى هذا النمط من التديُّن الشائع،فلكي تكونَ مُتديناً لابد أن تعيشَ نفسيَّة الصراعِ، لا بُدَّ أن ننتصرَ فى معركةٍ ما، لا تتفوق من أجل التفوق ودعم قيمة الاجتهاد، لا، تتفوق لتمحق الغير؛ لأننا لا نتقبل وجود الغير.
ثمّ لمَّا بلغتُ مَرحلةَ التمييز، وجدتُ فى دَاخلي رغبةً وشعورًا بالقرب الروحى من الله، فأشار أحدهم علىَّ بالذَّهَاب لمسجدٍ يُعطى دروساً، كنت أتصور أن أذهب فيسكُن باطني الراغب فى الوصول إلى الله، فإذا بالمتحدث في بادئ حديثه قبلَ أن يُعرّفنا على الله الذى نعبد،  وقبل أن يُعرَّفنا على طريقٍ نلزمه، طريقٍ مَنهجيٍّ معلومَ المَلامِحِ؛  إذ بهِ يتحدّثُ عن فلانٍ وعلّان ويصوّر أنه لكى يكتملَ تديُّنك وإيمانك لا بُدَّ أن تقيّم وتحكُمَ على إيمان الآخرين، وأنه لن تصل حتى تتبراً من هؤلاء وهؤلاء في منهج مقدس عندهم سمّاهُ: " الولاء والبراء".
يا إلهى! " هل سيسألنى الله عن الآخرين؟ وليسَ وصولٌ من غير أن أبحثَ فى نوايا وبواطن الخلق؟" ما هذا الإرهاق؟ثم يأتى مشهدٌ  آخر فى منزلنا حيث  شاعت  فضائياتٌ  تسيرُ على هذا الدّرب،  وكان من المفترضِ أن يكون ما هو في صُورةِ التديُّن أن يلامسَ قلبى فيرق أو أشعرَ منه بلذة أُنسٍ أو قُربٍ، لكننّى على العكسِ لم أكن أشعر إلا بجفاء.
أين روحانية الدين التى يتحدثون عنها؟ لماذا لا أشعرُ بالوصل؟ لماذا يُردد هذا الرجل كلاماً فيه كآبة؟ثلاثة مشاهد من مشاهد كثيرة أبقت فى نفسى تساؤلاتٍ كامنة، روحى تلفظها لكنّى لا أستطيع التعبير عنها، إذ كيفَ أعترض على ما يبدو أنه الدين الحق؟ثمّ تراكمت هذه الأفكار حتى وصلت إلى مرحلة الشعور بالصدام بين الدين والحياة، وأننى لكى أكون متديناً لابد :
- أن أعيش فى صراع مع الواقع وأُقيّم وأحكم على نوايا الآخرين وأن أصارع كل الخلق، ولكنى لا أصارع نفسى الأمارة.
- أن أعيش هذا الشعور بالجفاء وأن أي خطابٍ آخرَ هو خطابٌ مميع.
- أن أعيش على المواعظ اللحظية وكلمة من هنا وكلمة من هناك بلا منهجية واضحة ،  ويصاحب هذا إحساس واضح بانعدام الهدف ومعرفة مقصود، وبدون مُرشد؛ إذ أنا مؤهلٌ للنظر والسيرِ وحدى.
- دام الصراعُ النفسى وفاض لدرجة الشعورِ بالرغبة فى الابتعاد عن كل ماهو دينى، وبالفعل قررت الابتعاد رأفة ورحمة بنفسى الحائرة التائهة، واكتفيتُ بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- كما نصحنى أحدهم.
وفى تبعات هذه الفترة وقع فى يدى كتاب للإمام الحُجّة – أبى حامد الغزالي- يُسمّى " المنقذ من الضلال"، لفت نظرى الاسم وسبب كتابة الكتاب إذ عاشَ الغزالي فترةَ شكٍ وعزلة واتهامٍ للنفس،  وهو في أَوْجِ شُهرَتهِ، وحكى عُصارةَ تجربتِه، تصفحتُ الكتابَ ولفت نظرى نصٌ بديعٌ قاطع، واعتقد أنه كان محورياً لى :
"ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به،  إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريقة، طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟! "
ثمّ بدأ بصيصُ النور بعد الاطلاع على منهج التصوّف؛ فوجدت فيه ما يلى:
- كما أن الأبدان بحاجة إلى رعاية فكذلك الأرواح والأنفُس بحاجة إلى رعاية دقيقة، ولا أحد خبير بدقائق النفوس وأحوال الروح من المنظور الدينى غير السادة الصوفية المُتحققين، ووجدتُ أن أكثر من يتكلم فى أمور النفس بخلاف السادة الصوفية يكون مدّعياً لإنه علمٌ يحتاجُ إلى سند، فتجد كلامهم يمسّ القلب ويغيّر الحال ببركة السند وليس معلومات نظرية خالية من الروح.
- لإن السَير مع السادة الصوفية سَيرٌ نظاميٌ منهجيٌ مرتّب معلوم الملامح مدروس مُجرّب،ليسَ سيراً عشوائياً يمنع فُرصَةَ التراكُم،  ويمنع بناء الإنسان الحضاري المتكامل والمتوازن بين الروح والمادة، فتجد المدّعين يشغلونك بالالتفات للناس والانشغال بأشياء لا تخصّك، ويمنع هذا عليك تخمّر وبناء نفسك ومعالجتها قبل التصدر والانشغال بالغير.
- لإن التصوّف يدعو إلى محو الذَّاتِ والارتكان على حول الله وقوته و التعبُّد بالأسباب وليس الاعتماد عليها،  وهذا هو مَقصدُ فِكرةِ الدَّين أصلا "الفناء عن الذات "، فتجدهم خاليين من الأمراض النفسية، ليس عندهم صدام مع الواقع؛  لأنهم أدركوا أنَّ الحول والقوة والفعل والتغيير من الله،  وما نحنُ إلا صورٌ وأسباب، لكن الآخرين يدعون إلى تعظيم الذات والاعتقاد في النفس التغيير والاعتقاد بأن الذات هي محل التدبير والفعل وما يترتبُ على ذلك من أمراض وتذمّر وكآبة؛  لأنه متصادم مع الواقع وعدم تصالح مع أقدار الله الكونيّة.
- لأنّ لا أحد يدعو إلى حب شخص النّبى –صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- حباً شاعرياً فيه هيامٌ وعشقٌ غيرهم، وهذا أصلُ الإيمان، الحُب القلبى الحقيقي؛ حب لشخصه وذاته، ولا أحد يدعو إلى كثرة الصلاة والسلام على حضرته كثرة مُفرطة غيرهم.
-لأنّه لا أحد يحقق فكرة الأستاذية فى التربية غيرهم، لا أحد يملك منهجاً يحوى مصطلح الشيخ المُربى، وأن يكونَ هناك شخص يتابعُكَ ويتابعُ أورادك ويدعو لك وتلازمه غير السادة الصوفية، فى تحقيقٍ حقيقى لمفهومِ الصحبة ومفهوم الإرشاد والاستعانة بالخبرة، وليس الاعتماد على نظرتى المحدودة كشخصٍ مبتدئٍ متغيرةٌ نظرته فى الحياة كل يوم.
-لأنه لا أحد لديه تحقيقٌ بل إدمانٌ على ذكر الله غيرهم، تجدهم يذكرون الله ذكراً كثيراً ببرامجَ معروفةٍ ومجرّبة لدرجة أن نورَ الذكر يختلط بجسمه ودمه، فتتجلى صفات المذكور عليهم فتجد أشخاصاً رحمانيين ربانيين قلوبهم ملأى بالحب والبركة والنور والجمال.
هذه المفاهيمُ رغم سهولتها كانت بداية الفتحِ وبداية الوصل بعد كثير من التخبط، كانت بداية شهود الأنوار وبداية خوض رحلة تغيير قلب وفكر يصعُب حصرها فى مقال،كل هذا ببركة الصلاة على سيدنا رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- الفاتح لما أغلق.
وصلّى الله على سيدنا محمد سبب كل خيرٍ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.