السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


د. مختار محسن الأزهري
لمحات من جهود الشيخ عبد الله الغماري في علم الكلام
د. مختار محسن الأزهري

اختص الله جل في علاه بعض عباده بخصائص تُظهر عظيم مِننه، وتكشف عن واسع فضله؛ ومن هؤلاء الذين اختصهم الله بهذه الخصائص مولانا الإمام المجتهد المتفنن السيد عبدالله بن الصِّدِّيق الغماري؛ ذلك العَلَم الذي نحتفل بذكراه في آخر جمادى الآخرة من كل عام.

كان رحمه الله متفننًا في علوم شتى فهو المحدث والفقيه والأصولي والمتكلم واللغوي والمفسر، وإذا أردت دليلًا على كل هذه الصفات؛ فعليك أن تُطالعَ قائمة كتبه التي تزيد على خمسين كتابا ورسالة، فإن هذه المصنفات قد استوعبت موضوعات شتى وحلت إشكالات عدة.

وقد خصصت هذا المقال لأتناول أحد هذه الجوانب العلمية لمولانا السيد عبد الله الغماري وهو جانب العقيدة؛ حيث برع الشيخ وتمكن من علم الكلام بشكل لافت للنظر، حيث تَعرضَ الشيخ لمشكلات عصره، وأسهبَ في الرد على مخالفي عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل أسكت خصومه، وأحيا في نفوس أهل السنة والجماعة مزيدَ الحرصِ والاعتناء بنُصرةِ مُعتقد أهل الحقّ.

وما سأعرضه هنا هو من قبيل الإشارة إلى جهود الشيخ رحمه الله في علم الكلام، وإلا فإن ما تركه لنا الشيخ رحمه الله لا يكفيه هذا المقال ولا عشرات مثله؛ لبيان فضله وواسع علمه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

 وقبل التعرض إلى جهود الشيخ في مجال علم الكلام، لا بد من الإشارة إلى أن تمكن الشيخ في علم الكلام وما أظهره الله على يديه من مصنفات علمية فيه هو بسبب تمكن الشيخ في سائر علوم الشريعة وبنفس المرتبة! فلولا تمكن الشيخ في علوم الأصول والحديث واللغة والتفسير لما كانت كتاباته في علم الكلام بهذه القوة والبراعة؛ فسبحان من وهب العلوم لمن شاء من عباده.

أما ما صنفه الشيخ في مجال علم الكلام، فإنه يتنوع ما بين الإلهيات والنبوات والسمعيات؛ غير أن ما صنفه الشيخ ليس تكرارًا لما سبق، بل هو من قبيل التجديد وإحياء مناهج العلماء، حيث عاصر الشيخ خاصة عندما كان في مصر عددا من التيارات المختلفة التي كادت تعصف بثوابت الدين عند عموم المسلمين؛ فانتهض الشيخ منافحًا عن منهج أهل السنة والجماعة ضد هذه التيارات، لعلمه أن هذا واجب الوقت على العلماء الثقات.

فكان يتابع الأفكار التي تنتشر في المجتمع، أو التي يتبناها بعض المتصدرين لتعليم الناس فيرد على ما خالف فيها صحيح الاعتقاد، ويفند ما انتشر من الشبهات؛ ليقرر حقائق الدين وثوابته.

وللشيخ مصنفات عديدة في علم الكلام منها :

   1-     فتحُ المعين في نقد كتاب الأربعين.

   2-      التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر.

   3-      استمداد العونِ لإثبات كفر فرعون.

   4-      قُرة العينِ في إرسال النبي للثقلين.

   5-      إرشاد الجاهل الغوي إلى وجوب اعتقاد أنَّ آدمَ نبي.

   6-      الحجج البينات في إثبات الكرامات.

   7-      إقامة البرهان على نزول عيسى آخر الزمان، المهدي المنتظر.

   8-      رفع الإشكال عن مسألة المحال، وغيرها من المصنفات.

وحتى لا يتشعب بنا المقال، سنكتفي بعرض منهج الشيخ من خلال كتابين اثنين من هذه الكتب وهي:

1- كتاب «فتح المعين في نقد كتاب الأربعين»

وأصل هذا الكتاب هو كتاب «الأربعون في دلائل التوحيد» للهروي المتوفى 408هـ وقد أعيد طبع الكتاب بتحقيق جديد عام 1404 هـ حيث شاع في تلك الفترة إعادة طباعة الكتب التي تشتمل على عقائد المجسمة والمشبهة؛ مع قيام الهيئات التي ترعى أفكار ومعتقدات الوهابية أو ما يسمى زورًا بالسلفية بنشر وتوزيع هذه الكتاب في المساجد والجامعات!

وهو ما دفع الشيخ رحمه الله لتصنيف كتابه في الرد على محتوى كتاب الأربعين حرصًا منه على التصدي لهذه الحملة الضارية على أهل السنة والجماعة من قبل تيارات تريد تفريق الأمة والتشكيك في عقائدها المستقرة باسم السلف.

وإذا تأملنا فيما كتبه الشيخ في هذا الكتاب فإنه قد قرر في مقدمته ما يعد تقعيدًا لمسلك أهل السنة والجماعة في التعامل مع الصفات الخبرية والأمور الاعتقادية بشكل عام بحيث يقطع الطريق على كل عقيدة منحرفة وفكر ضال؛ فقال رحمه الله:" الفروع الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات مبنية على الظن، واليقين فيها قليل، ولذلك حصل فيها الخلاف بين الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، وكان فيهم المخطئ والمصيب، ولم يضلل أحد منهم مخالفه إذا أخطأ، بل يعتقدون أنهم جميعا على هدى وسنة، وأن المخطئ مأجور على اجتهاده.

وأما التوحيد فالأمر فيه يختلف؛ لأن اليقين في مسائله مطلوب حتمًا؛ خصوصا ما يتعلق بصفات الله تعالى..."([1])

وقد قرر الشيخ عددًا من الشروط المهمة لإثبات صفة معينة لله عزوجل أو نسبتها له تعالى."([2])

  وهكذا كان الشيخ في بيانه لمسائل علم الكلام معتنيًا بتقرير القواعد وبيان الحقائق دون مواربة أو مداهنة.

ولعل هذا المسلك الذي تميز به الشيخ رضي الله عنه في الدفاع عن منهج أهل السنة والجماعة يكشف عن وعي منه قُدِّس سِره بالأخطار التي تهدد الأمة في دينها ومعتقداتها؛ ولا شك أن ما يتعلق بمبحث الإلهيات هو الأساس الذي تدور عليه سائر مباحث الاعتقاد؛ وصيانته عن أوهام المشككين من أوجب الواجبات.

وقد  ظهر في هذا النقد، التمكن من سائر العلوم الشرعية، فهو يوجه سهام النقد من خلال تطبيق قواعد علم الكلام تارة، ومن خلال قواعد اللغة والتفسير والمنطق تارة أخرى، كما هي العادة المطردة في أئمة المسلمين وعلماءهم الذين اصطفاهم الله لبلاغ دينه ونشره بين الناس، فحملُ الدين أمانة لا تتيسر إلا لمن تأهل لها من خلال التمكن في العلوم الشرعية والاطلاع على الواقع وما فيه من مشكلات وأفكار.

2- كتاب «التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر»

وهو مصنف ألفه الشيخ ليرد على أحد دعاة وَحدة الأديان الذين يزعمون أن الإيمان بالله واليوم الآخر كافيان في النجاة يوم القيامة دون الإيمان بخاتم النبيينﷺ وما جاء عنه، وهي دعوى لا تزال تجدُ آذانا صاغية خاصة في بلاد الغرب، فانتهض الشيخ رحمه الله لتفنيد هذه الدعوى، وإقامة الأدلة القاطعة على وجوب الإيمان بنبوة سيدنا محمد ﷺ وما جاء به من عند الله تعالى.

وأخذ الشيخ رضي الله عنه يستعرضُ كلّ ما جاء من الأدلة في هذه المسالة ويظهر ضعف ما تمسك به أصحاب هذه الدعوى التي تفضي لمساواة مَن يؤمن بنبوة سيدنا محمد ﷺ ومن يكفر بنبوته يوم القيامة، وفي سبيل ذلك صال الشيخ وجال في استخدام أدوات علم أصول الفقه وقواعد التفسير وضوابط العقل والنقل –وهو المتمكن منها تمام التمكن- من أجل بيان بطلان هذه الدعوى، ومدى خروجها عن قواطع الشرع الشريف.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.


[1]فتح المعين بنقد كتاب الأربعين للشيخ عبد الغماري 11/ 1 ضمن موسوعة العلامة الشيخ الغماري ط.دار السلام

[2]انظر المرجع السابق 1/11