السنة الرابعة جمادى الآخرة 1446 هـ - ديسمبر 2024 م


د. مختار محسن الأزهري
أدلة أوراد الطريقة الصديقية من كتاب المنح العلية (2)
د. مختار محسن الأزهري

ثانيًا: المُسبَّعات الخضرية أو المُسبَّعات العشر

من جملة أوارد الطريق عند السادة الشاذلية وغيرهم، ما يُسمى بالمُسبَّعات الخضرية أو المُسبَّعات العشر: وهي عبارة عن عشر من السور والأذكار والأدعية، كل منها تقرأ سبع مرات على هذا الترتيب: سورة الفاتحة، ثم سورة الناس، ثم سورة الفلق، ثم سورة الإخلاص، ثم سورة الكافرون، ثم آية الكرسي، ثم الباقيات الصالحات (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصيغة الإبراهيمية، ثم يستغفر لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، ثم يدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين بصيغة اللهم افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رءوف رحيم، وسميت بالخضرية نسبة إلى الخضر عليه السلام؛ حيث ورد عن بعض الصالحين أنه تلقاها منه([1])؛ ففي إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ما نصه: "وإن قرأ المُسبَّعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي رحمه الله ووصاه أن يقولها غدوة وعشية؛ فقد استكمل الفضل وجمع له ذلك فضيلة جملة الأدعية المذكورة ..."([2])

 

أولًا: الكلام عن إسناد المُسبَّعات:

وقد رويت هذه المُسبَّعات كما في قوت القلوب لأبي طالب المكي بهذا الإسناد قال: "روى ذلك سعيد بن سعيد عن أبي طيبة عن كرز بن وبرة قال: وكان من الأبدال، قال: أتاني أخ لي من الشام فأهدى لي هدية، وقال: يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعم الهدية، فقلت: يا أخي من أهدى لك هذه الهدية؟ قال: أعطانيها إبراهيم التيمي، قلتُ: أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه؟ قال: بلى، قال: كنت جالسًا في فناء الكعبة، وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد فجاءني رجل فسلَّم عليَّ وجلس عن يميني فلم أرَ في زماني أحسن منه وجهًا ولا أحسن منه ثيابًا ولا أشدَّ بياضًا ولا أطيب ريحًا، فقلت: يا عبد الله من أنت ومن أين جئت؟ فقال: أنا الخضر، فقلت: في أي شيء جئتني؟ قال: جئتك للسلام عليك، وحبًّا لك في الله عزَّ وجلَّ، وعندي هدية أريد أن أهديها إليك، فقلت: ما هي؟ قال: هي أن تقرأ قبل طلوع الشمس وتبسط على الأرض، وقبل أن تغرب......[وذكر صيغة المُسبَّعات المارة]، ثم قال في آخرها: أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية، فقال: أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم،... إلى آخر الحديث"([3])

فهذا الحديث المروي عن الخضر بهذا الإسناد فيه أمور:

الأول: أن الإسناد المنقول به هذا الحديث المنتهي إلى سيدنا الخضر –عليه السلام- مثله يمكن الاعتماد عليه في نقل فضائل الأعمال؛ كما نص على ذلك العلامة خاتمة الحفاظ السيد محمد مرتضى الزَّبيدِي أثناء شرحه لإحياء علوم الدين؛ فقال: "ولكن مثل هذا يغتفر في فضائل الأعمال لا سيما وقد تلقته الأمةُ بالقَبول"([4])ا.هـ.

ومعنى تلقي الأمة بالقبول أن العلماء المعتبرين عملوا بمثل هذا الحديث ولم ينقل عن أحدهم الإنكار على ما جاء فيه؛ لما فيه من قرآن وذكر لله ودعاء ومجموع ذلك مما حثت الشريعة على الاهتمام به والتقرب إلى الله بوساطته.

 وقد نص العلماء على الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال من نوافل الطاعات كالأذكار والصدقات وغيرهما وممن نقل ذلك عن علماء الحديث وغيرهم الإمام السيوطي في تدريب الراوي؛ حيث قال: "ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد الضعيفة ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه في غير صفات الله تعالى وما يجوز ويستحيل عليه وتفسير كلامه والأحكام كالحلال والحرام وغيرهما وذلك كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام وممن نقل عنه ذلك ابن حنبل وابن مهدي وابن المبارك قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا"([5])

ومن الأمور التي تعد من جهة أخرى كاشفة عن سبب إجازتهم للعمل بالضعيف أنهم ذكروا ضمن شروط العمل به كونه مندرجًا تحت أصل عام من أصول الشريعة([6])، فلا غرابة حينئذ في جواز العمل بالحديث الضعيف؛ إذ على فرض عدم ثبوت ما دعا له ذلك الحديث، فإنَّ ما دعا له يدخل أصل عام من أصول الشريعة؛ كباب الذكر أو الدعاء أو الصدقة وغير ذلك من شرائع الإسلام؛ كما سيتضح ذلك تفصيلًا بعد ذلك.

الثاني: أن الراجح من أقوال العلماء صحة القول باستمرار حياة سيدنا الخضر إلى الآن جمهور العلماء على أن الخضر –عليه السلام – لايزال حيًّا قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم: "جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمر بن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين"([7]) ا.هـ وليس في هذا ما يعارض عموم النصوص التي تقرر تقدير الموت على كل نفس خلقها الله؛ لأن طول الحياة لا يعني الخلود وعدم الموت؛ فأهل السنة يجمعون على حياة سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه رفع بجسده العنصري، وأنه حي في السماء الآن وأنه ينزل قبل قيام الساعة ثم يموت بعد ذلك([8])؛ وكل ذلك بتقدير الله جل في علاه؛ فاعتقاد الصوفية حياة الخضر ليس مستغربًا لعدم مخالفته العقل أو الشرع.

الثالث: إذا تقرر كون ذلك الإسناد مقبولًا، ويمكن الاعتماد عليه في باب الفضائل، ثم في ترجيح استمرار حياة الخضر -عليه السلام- كما هو منقول عن الإمام النووي وغيره، فلا إشكال في العمل بمثل هذا الحديث؛ إذ ليس في إسناده أو متنه ما يمنع من روايته والحث على العمل بما اشتمل عليه وفق ما تقرر من أصول الدين وقواعده وأحكامه.

وبالإضافة لذلك، ورد حديث موقوف([9]) بالحث على قراءة بعض هذه المُسبَّعات يوم الجمعة سبع مرات، وهو ما رواه الإمام البيهقي وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت:"من قرأ يوم الجمعة بفاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس سبعَ مرات حُفظ ما بينه وبين الجمعة الأخرى"([10]).

ومثل هذا الحديث له حكم الحديث المرفوع؛ لأن مثله لا يعرف بالعقل، وقد روى ذلك الحديث أيضًا ابن الضريس في فضائل القرآن بسنده ثم قال عقبه: قال وكيع: فجربناه، فوجدناه كذلك([11])

ثانيًا: فضل المُسبَّعات وبركاتها:

لا شك أن للذكر على العموم فوائد جمة؛ نص الشرع الشريف على عدد منها، ولعل أعظمها على الإطلاق أن الذاكر لله يكون داخلًا تحت قول الله تعالى ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]

يقول العارف ابن عجيبة في تفسير هذه الآية: "فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو: فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة. أو: فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث: «أنا عِندَ ظنِّ عبدي بي فليُظنَّ بي مَا شاء([12])، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ..»([13]) الحديث ...أو: فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، أو: فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أو: فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة. أو: فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، أو: فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، أو: فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، إلى غير ذلك مما لا ينحصر.

واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع: ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين، وذكر القلب فقط، وهو ذكر الواصلين، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولكلٍّ خاصيةٌ وثمرة"([14]).

وبناء على ذلك فكل ذكر من شأنه أن تكون له هذه الفضيلة العظمى؛ وهي المعية والإقبال من الله عز وجل على العبد!

لكن وبالإضافة لكل ذلك؛ فإن هناك فضائل مخصوصة لكل ما اشتملت عليه "المُسبَّعات" نذكر بعضها على سبيل الاختصار:

 

1-                       فضل الفاتحة:

ورد في فضل الفاتحة أحاديث كثيرة ومنها؛ ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: "هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة"([15])

2، 3 – فضل المُعَوِّذَتَين:

جاءت أحاديث كثيرة تبين فضل المعوذتين؛ وهما سورتا: الفلق والناس، ومن ذلك:

1- ما رواه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل، أو أنزلت علي آيات لم ير مثلهن قط، المعوذتين"([16])

2- روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما"([17])

4 – فضل سورة الإخلاص:

مما ورد في فضل سورة الإخلاص من الأحاديث ما يلي:

1- روى الإمام مسلم بسنده عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن"([18])

2 – وروى الإمام أحمد في مسنده بسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات؛ بنى الله له قصرًا في الجنة، فقال عمر بن الخطاب: إذا نستكثر يا رسول الله؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب"([19])

5 - فضل سورة "الكافرون"

مما ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة:

1 - قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ: {قل يا أيها الكافرون} عدلت له بربع القرآن"([20])

2 – وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ {قل يا أيها الكافرون} عند منامه فقد برئ من الشرك"([21]).

يتبع ...


([1])سيأتي الكلام عن مسألة استمرار حياة سيدنا الخضر إلى الآن، وما الراجح فيها قريبًا.

([2])إحياء علوم الدين للغزالي 3 / 336 وانظر كذلك قوت القلوب لأبي طالب المكي 1/ 17 ط.دار الكتب العلمية.

([3]) انظر قوت القلوب 1/17.

([4]) انظر : "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين"[5/ 428 ط.دار الكتب العلمية]

([5]) تدريب الراوي شرح تقريب النواوي  للسيوطي 1/ 298

([6]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث 1/ 351 ط.مكتبة السنة

([7]) انظر شرح صحيح مسلم للإمام النووي 15/ 135ط.دار إحياء التراث العربي، الثانية 1392م، وقد أتى الحافظ ابن حجر العسقلاني كذلك  -بعد حكايته الخلاف في حياته إلى الآن- ببعض الروايات التي تثبت حياة الخضر عليه السلام والتقائه ببعض الصحابة أو التابعين أو بعض الصالحين، انظر الإصابة في تمييز الصحابة 3/ 227 ط.هجر

([8]) انظر في هذه المسألة على سبيل المثال كتاب: التصريح بما تواتر في نزول المسيح لأنور شاه الكشميري بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ط.دار البشائر

([9]) يقصد بالحديث الموقوف الذي ينتهي إسناده إلى الصحابي دون أن ينسبه إلى النبي ﷺ، فإن نسبه للنبي ﷺ فهو الحديث المرفوع.

([10]) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت أبي بكر باب تخصيص المعوذتين بالذكر، الحديث (2342)

([11]) فضائل القرآن لابن الضريس (ت:294ه) صـ123 ط.دار الفكر دمشق

([12]) هذا الجزء رواه الإمام أحمد في مسنده؛ الحديث رقم: (16016 ) والحاكم في المستدرك عن واثلة بن الأسقع؛ كتاب التوبة والإنابة حديث رقم (7603) وقال الحاكم صحيح الإسناد .

([13])  هذا الجزء من الحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة بلفظ قريب من هذا الحديث رقم (10253)

([14]) البحر المديد لابن عجيبة 1/ 183 -184

([15]) رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة،حديث رقم: 1913  .

([16]) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها؛ باب فضل المعوذتين،حديث رقم: 814

([17]) رواه الترمذي في سننه كتاب الطب، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، حديث رقم: 2058

([18]) صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد، الحديث رقم : 811

([19]) مسند الإمام أحمد،مسند سهل بن سعد الساعدي، حديث رقم: 15695، وفي هذا الحديث دلالة على استحباب الإكثار من قراءة سورة قل هو الله أحد وأن هذا الإكثار لا حد له.

([20]) رواه الترمذي في سننه أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إذا زلزلت}الحديث رقم: 2893

([21]) السنن الكبرى للنسائي،كتاب عمل اليوم والليلة، قراءة قل يا أيها الكافرون عند النوم، الحديث رقم:10571