
أدلة أوراد الطريقة الصديقية من كتاب المنح العلية (4)
د. مختار محسن الأزهريثالثًا ترتيب المُسبَّعات:
من الأسئلة التي ترد على أذهان بعض الناس: هل هناك فائدة أو حكمة من ترتيب المُسبَّعات العشر كما نقلت إلينا؟ حيث نجد مثلًا أن سورة الفاتحة يتلوها سورة الناس ثم الفلق ثم الإخلاص وهكذا فهل هناك فائدة ذكرها العلماء لهذا الترتيب في المُسبَّعات؟
وممن تكلم عن بعض الحِكم من هذا الترتيب الشيخ أحمد الصاوي المالكي تلميذ الشيخ الدردير المالكي الخلوتي؛ وننقل كلامه هنا ملخصًا حول ترتيب السور القرآنية على خلاف ترتيبها في المصحف، وبعض فوائد المداومة على المُسبَّعات:
1- سورة الفاتحة: قال: " وقدمها لأنها أم القرآن وتعدله في الثواب "
2- سورة الناس: " وقدمها لأنَّ الوسواس أعظم المصائب؛ ولذلك قال العارفون: الوسواس لا يعتري إلا من كان معه خبل في عقله، أو شك في دينه"
3- سورة الفلق: " وأُخرت عن الناس؛ لأن التحصن بها أعم"
4- سورة الإخلاص: " ولما كانت أصل التوحيد وخالصة قدمت على ما بعدها "
وقال كذلك مبينًا حكمة التزام هذا الترتيب الواردة به هذه المُسبَّعات إجمالًا، وأيضًا ما في ترتيب السور هنا تفصيلًا؛ فقال: "ويقرأ كلًّا من هذه السور سبع مرات على هذا الترتيب اتباعًا للوارد ([1])؛ وإن كان خلاف وضع التنزيل، و سئل شيخنا عن حكمة التنكيس ([2]) فقال: إن فيه تقديم التخلية عن التحلية؛ لأن في المعوذتين تحصنًا من كل ضار، وهذه تخلية بالخاء المعجمة وفي الصمدية وما بعدها ذكر التوحيد وشغل القلب به وهذه تحلية بالحاء المهملة ..."([3])
قال الإمام الدردير كما نقل تلميذه الصاوي عنه:" ومن فوائدها زوال الحقد والحسد من القلب"([4])
فهذه المعاني التي نقلها الشيخ أحمد الصاوي تبين لنا كيف أنهم حافظوا على الوارد بمعناه الأخص، والأعم الذي يشمل ما لا يخالف مقاصد الشرع من ناحية، ومن ناحية أخرى هو يوافق ما فتح الله به من فهوم وأسرار على أولياء الله؛ نفعنا الله بهم في الدنيا والآخرة.
فهذه هي المُسبَّعات الخضرية التي لا يزال الأخيار والصالحون يواظبون عليها رغبة في التقرب إلى الله بكلامه جل جلاله وبما شرعه على لسان نبيه ﷺ من صنوف الذكر والدعاء.
3 –الوظيفة الزروقية: فوائدها وأدلتها.
مما اختاره أيضا مشايخُ الطريقة الشاذلية –نفعنا الله بهم - مجموعةٌ من الأدعية والأذكار سميت "سفينةَ النجا إلى من إلى الله التجا"؛ وكذلك اشتهرت باسم "الوظيفة الزروقية" لأن الذي قد جمع هذه الأذكار واختارها للتعبد هو الإمام العارف بالله سيدي أحمد زروق أحد أئمة الشاذلية رضي الله عنه.
ترجمة الشيخ أحمد بن زروق الفاسي صاحب الوظيفة كما في "نيل الابتهاج":
وهو:"الإمام العالم الفقيه المحدث الصوفي الولي الصالح الزاهد القطب الغوث العارف باللَّه الحاج الرحلة المشهورة شرقًا وغربًا ذو التصانيف العديدة والمناقب الحميدة والفوائد العتيدة، قد عرف بنفسه وأحواله وشيوخه في كناشته وغيرها، فقال: ولدت يوم الخميس طلوع الشمس ثامن وعشرين من المحرم سنة ست وأربعين وثمانمائة، وتوفيت أمي يوم السبت بعده وأبي يوم الثلاثاء بعده كلاهما في سابعي، فبقيت بعين اللَّه بين جدتي الفقيهة أم البنين فكفلتني حتى بلغت العشر وحفظت القرآن وتعلمت صناعة الخرز ثم نقلني اللَّه بعد بلوغي سادس عشر إلى القراءة فقرأت الرسالة على الشيخين: على السطي وعبداللَّه الفخار قراءة بحث وتحقيق والقرآن على جماعة منهم: القوري والزرهوني وكان رجلًا صالحًا، والمجاصي والأستاذ الصغير بحرف نافع، واشتغلت بالتصوف والتوحيد؛ فأخذت الرسالة القدسية وعقائد الطوسي على الشيخ عبدالرحمن المجدولي، وهو من تلاميذ الآبي، وبعض التنوير على القوري وسمعت عليه البخاري كثيرًا وتفقهت عليه في كل أحكام عبدالحق الصغرى وجامع الترمذي، وصحبت جماعة من المباركين لا تحصى كثرة بين فقيه وفقير -اهـ- ملخصًا.
وأما تآليفه فكثيرة يميل إلى الاختصار مع التحرير ولا يخلو شيء منها عن فوائد غزيرة وتحقيقات مفيدة سيما في التصوف، فقد انفرد بمعرفته وجودة التأليف فيه، فمنها شرحان على الرسالة، وشرح العقيدة القدسية للغزالي، ونيف وعشرون شرحًا على الحكم وقفت على الخامس عشر والسابع عشر منها، وأخبرني والدي -رحمه اللَّه تعالى- أن بعض المكيين أخبره أن له عليها أربعًا وعشرين شرحًا، وشرحان على حزب البحر وشرح الحزب الكبير لأبي الحسن الشاذلي وشرح مشكلاته، وله تعليق لطيف على البخاري قدر عشرين كراسًا اقتصر فيه على ضبط الألفاظ وتفسيرها، وبالجملة فقدره فوق ما يذكر ومن تفرغ فذكر حاله وفوائده وحكمه ورسائله جمع منها مجلدًا.
وهو آخر أئمة الصوفية المحققين الجامعين لعلمي الحقيقة والشريعة له كرامات عديدة وحج مرات، وأخذ عنه جماعة من الأئمة كالشمس اللقاني والعالم محمد بن عبدالرحمن الحطاب والزين طاهر القسنطيني وغيرهم.
توفي بتكرين من عمل طرابلس في صفر عام تسعة وتسعين وثمانمائة " ا.هـ مختصرًا ([5])... يتبع
([1]) قوله: اتباعا للوارد؛ يقصد بالوارد هنا: خصوص هذا الحديث الذي جاء فيه ترتيب السور على خلاف نظم المصحف الشريف، ولا إشكال في ذلك؛ كما سيأتي بيانه في معنى التنكيس.
([2]) التنكيس:يقصد به مخالفة ترتيب السور في المصحف الشريف؛ وقد نص عدد من العلماء على جواز مخالفة الترتيب بين السور، مع اتفاقهم على حرمة مخالفة ترتيب الآيات في السورة الواحدة؛ ومن هؤلاء العلماء الذين جوزوا قراءة السور من غير ترتيبها الموجود في المصحف ابن بطال؛كما نقله عنه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 9/40 قال:" لا نعلم أحدًا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها"ا.هـ ، ولتفصيل أكثر انظر ( مصطلح تنكيس): الموسوعة القرآنية المتخصصة، نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2002 م
([3]) منقول ملخصا من : الأسرار الربانية بشرح الصلوات الدرديرية للصاوي من صـــ6 إلى صــــ8
([4]) الأسرار الربانية صــــ6 ، وقال الشيخ الصاوي: وهذان الوصفان سبب طرد إبليس من رحمة الله؛ لأنه يتسبب عنهما كل فاحشة ظاهرية وباطنية، فحيث زالا عن شخص سعد في الدنيا والآخرة"ا.هـ
[5] - انظر ترجمته المباركة كاملة في نيل الابتهاج للتنبكتي صـ 130 ط.دار الكاتب طرابلس ، الثانية 2000 م، وللشيخ عبدالله كنون المغربي مقال موسع عرَّف فيه بالشيخ زروق عنوانه " الشيخ أحمد زروق دفين مصراته" [مجلة الآداب – جامعة بنغازي 1986 م]