
المثلث الذهبي والتوازن الروحي
خالد محمد غزالكتاب المقدور والكتاب المسطور والكتاب المنظور
يقول شيخنا رضي الله عنه: الكتاب المقدور هو الإنسان وقد وهب الله له عقلاً يتلقى، ويفهم، ويحفظ، ويسترجع، ويؤدي، ويربط المعلومات، ويبتكر، ويبدع، ويتعلم وكل هذا وضع الله تعالى له أسسه ومفاتحه في كتاب الله المسطور وهو القرآن الكريم وكتاب الله المنظور وهو الكون وجعل الله تعالى الكتاب المسطور والكتاب المنظور مصدراً للمعرفة ولذلك هما لا يتعارضان إطلاقا لأن الثلاثة من عند الله يقول الله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]، أي له الخلق وهي ( الأكوان ) وله الأمر وهو ( القرآن )، فلا يتعارض القرآن مع حقائق الأكوان.
من أجل ذلك كان هذا الباب للحاجة إلى أن نقوم بالنظر في الكتابين معاً المسطور والمنظور ونستقرأ الآيات فيهما ونربط بينهما في محاولة للوصول إلى الفهم الصحيح الذي يخدم الإنسان ويعزز مهمته التي كلفه الخالق عز وجل بها في هذا الكون وهي عبادته سبحانه وتعالى، والتصوف لا ينفصل عن الدين ولا عن العلم ولا عن الكون بل هو جماع ذلك كله في سبيل الوصول إلى مقام الإحسان فهيا بنا على بركة الله تعالى نسير في سبيل تحقيق ذلك الهدف.
الروحانية في العصر الحديث
مهمة الإنسان وعلاقتها بالكون الموزون: خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لمهمة سامية محددة في هذا الكون وهي عبادته سبحانه وتعالى قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ومن أجل قيام الإنسان بتأدية هذه المهمة السامية على الوجه الأتم الأحسن جعل الله تعالى له من المقومات والخصائص الذاتية ما يتناسب مع تلك المهمة فخلقه في هيئة معينة تلائم تلك الوظيفة يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين:4]. كما هيأ الله تعالى للإنسان المكان أو البيئة التي سيؤدي فيها مهمته على هيئة مخصوصة مقدرة بميزان دقيق لتناسب تلك المهمة وتناسب خلقة هذا الكائن وطبيعته وفطرته بما يحقق تناغماً ما بين خصائص وهيئة وخلقة الإنسان وبين البيئة المحيطة به والتي هي بيئة تكليفه كي يؤدي تلك المهمة دون معاناة أو تصادم ويتفرغ لما خلق من أجله يقول تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[الجاثية:13]
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾[ القمر: 49]
﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴾[ الحجر: 19]
ثم هيأ الله تعالى للإنسان الأرزاق من طعام وشراب ودواء وكساء وحتى الحلية التي يتزين بها خلق المولى له كل ذلك وغيره بما يتناسب أيضاً مع طبيعته وبما يحقق له النفع ويدرأ عنه المضرة قال تعالى:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾[غافر: 64]
﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26]
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:14]
العصر الحديث وتراجع الروحانية
ومرت الدهور تلو الدهور والأمر مستقر حتى أتى العصر الحديث وبدأت الثورة الصناعية ورأينا كيف جاء الإنسان بأمور مستحدثة في سبيل تيسير شئونه الحياتية ودعم رفاهيته فاخترع الآلات والمعدات الحديثة التي كان من آثارها الانبعاثات والإشعاعات الضارة والتي أثرت بلا شك على صحة بدنه بل وعلى سمو روحانيته - كما سنفصل لاحقاً – هذا إلى جانب ما أدخله على مصادر غذائه ما غبر عنصر الطيبة في طعامه من خلال العمليات التصنيعية التي أدخلت على الغذاء في مجالات الزراعة والتدجين وعلى مياه الشرب وتصنيع الدواء وفي مجال الحفظ والتخزين عبر تقنيات التخليق والهرمنة والتحويل وكذلك مما أستحدث في مجالات المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وغير ذلك الكثير ما أحدث اختلالاً بميزان البيئة.
ورغم ما أسدته هذه المخترعات والتقنيات المستحدثة للإنسان من منافع إلا أنه كان لها من الآثار السلبية والتداعيات على توازنه الصحى البدني والروحي أضعاف تلك المنافع بسبب الاختلال الذي طرأ على التوازن البيئي الذي فطره الله تعالى وقدره بحكمته الإلهية.
والإنسان روح وجسد ما يضر أحدهما فإنه يضر الآخر بشكل ما وهذه الآثار السلبية أحدثت في رأيي أموراً تفوق ما قد يتخيله الإنسان وأثقلت كاهله وأدت إلى ضعف بنيته وتدني روحانيته لاختلال الميزان الذي به قوام الإنسان فلم يعد بمقدوره أن يعمر الكون بالعبادة والذكر والتفكر وخرج من وظيفته التي خلق من أجلها فبات عالة وعبئاً على الكون بأسره مما يستدعي أن يعيد الإنسان التفكير مرة أخرى ويرسي قواعد الرشد والترشيد في التعامل مع تلك المستحدثات حتى يستفيد من خيرها متجنباً شرورها.
مفاسد تغيير الخلقة التي فطر الله عليها الكون
وللتأكيد على خطورة تغيير خلق الله تعالى في كونه الذي خلقه بمقدار وحكمة وميزان دقيق وسخره خدمة للإنسان وعوناً له على مهمته نجول في كتاب الله تعالى المسطور فنرى المولى عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 168]، ويقول تعالى:﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ [النساء:119]
تتجلى لنا من الآية الكريمة أمورًا نفهم من خلالها أن تغيير نمط وطبيعة ما خلق الله تعالى التي هي من فطرة الله هو نوع من موالاة الشيطان وعاقبته الخسران فهو إفساد للكون والإنسان للتشويش على مهمته التي خلقه الله تعالى من أجلها فحق له أن يذوق من جنس ما فعل وطغى يقول تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].
المدخل إلى استعادة الإنسان توازنه الروحي
فكان ولابد على الإنسان كي يستعيد الاتزان البدني والروحي مرة أخرى أن يحافظ على ما تبقى له بل ويحاول أن يستعيد ما فقده مما وهبه الله تعالى من نعم وأولها جسده ونفسه وروحه التي بها قوام حياته والتي بها يعايش دينه ودنياه، فإذا ما وجد ما يشوش عليه في سبيله لذلك وجب عليه أن يدفعه عنه بشتى الوسائل وهذا فطرة أما شرعاً وديناً فإن المسلم مطالب بذلك خاصة إذا كان ذلك يشغله عن عبادته ويشوش عليه علاقته بربه جل وعلا ومما يدل على ذلك الحديث الشريف الذي ورد عن السيدة عن عائشة رضي الله عنها: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال صلى الله عليه وسلم كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني))[1]
نرى في سياق الحديث الشريف كيف تخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من خميصة وهي ليست أكثر من قطعة من القماش بها بعض النقوش لمجرد أنها قد تلفت نظره الشريف ولو للحظة عن التركيز في الصلاة، فما بالنا وقد ظهر لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن وسائل التكنولوجيا الحديثة ـ رغم منافعها ـ لها من المثالب الملهية بجانب الانبعاثات والاشعاعات الضارة التي غيرت الطبيعة الكونية والجو العام الذي يحيط بالإنسان فأثر ذلك عليه وعلى صحته البدنية والنفسية بل وعلى روحانيته ووجدانه ووعيه كما قد ثبت بالدراسات العلمية وكما سيظهر لنا لاحقاً فشوش عليه حياته وعبادته وتركيزه، فماذا نحن فاعلون كي نستفيد من الوسائل التكنولوجية وفي ذات الحين نتجنب مضارها؟.
وهذا ما سنحاول أن نتناوله بعد أن نشرح العلاقة بين المشوشات التي نتجت عن التقنيات الحديثة وبين الروحانية عند الإنسان وكيف نتفاداها دون أن نتصادم مع التكنولوجيا ووسائلها الحديثة وذلك عبر ثلاثة محاور نذكرها بشيء من الاختصار.
ومن أجل ذلك كانت هذه المقالات التي تتضمن العديد من الإجراءات والتوصيات في سبيل وضع برنامج حياة شامل ومتكامل في محاولة لإعادة الصفاء الروحي والنفسي للإنسان مما يُسهِم في تقوية روحانيته وسط الزخم الذي يحيط به من الملوثات والمشتتات التي نشأت عن التكنولوجيا الحديثة بأدواتها ووسائلها.
عبر محاور ثلاثة يمكن أن نجعلها منطلقاً وأساساً لهذا الغرض وجمعناها وأطلقنا عليها مصطلح ( المثلث الذهبي) لنرسي عليه خطة مقترحة يمكن من خلالها وقف النزيف الروحي لدى الإنسان في وقتنا الحاضر ومستقبلاً ونعيد ترميم ما تهدم من الروحانية ولكل محور من هذه المحاور تفاصيله وتلك المحاور هي:
§ النفس الزكية وطريق الوصول إليها ( تلاوة القرآن والذكر والتفكر )
§ التغذية الصحية وطريق الوصول إليها ( الطعام والشراب والدواء الحلال والطيب )
§ البيئة السوية وطريقة الوصول إليها عودة التوازن البيئي ومواجهة التلوثات بأنواعها المختلفة وأهمها في مجال حديثنا هي ( الإشعاعات والانبعاثات الضارة )
وسوف نركز على الجزء المتعلق بالبيئة الصحية المتوازنة من خلال تسليط الضوء على الآثار الضارة التي صاحبت التقنيات المستحدثة وكيف تُسهم التغذية الصحية والبيئة السوية وتزكية النفس في إعادة التوازن الروحي عبر الذكر والفكر وتلاوة القرآن الكريم ومجربات المشايخ وأمور عديدة لا يتسع المجال لذكرها الآن. والله تعالى الموفِّق والمستعان والهادي إلى الصراط المستقيم.
[1] صحيح البخاري