السنة الأولى جمادى الآخرة 1443 هـ - يناير 2022 م


الشيخ. محمد يحي عبد النعيم
الانفرادات العلمية للسيد عبد الله بن الصديق الغمارى رحمه الله تعالى
الشيخ. محمد يحي عبد النعيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ...

أما بعد، فإن الشيخ الجليل السيد عبدُ الله بن الصدِّيق مِنْ كِبارِ الأعلام البارزين في مجال خدمة العلم الشريف؛ الذين أثروا  في مسيرة العلوم الإسلامية في العصر الحديث تأثيرا بالغًا،  وليس أدل على ذلك مِن كثرة مؤلفاته، وما رزقه الله تعالى فيها مِنَ القبولِ، فقد ظلَّ مُدة خمسين عاما أو يزيد يُعلِّم ويدرس ويفتي ويخطب ويكتب.

وقد جاءت أعماله هذه خُصوصًا مُؤلفاته وتحقيقاته دقيقة محكمة على نمط الأوائل من كبار المصنفين ذوي التحقيق والإجادة.

وقد كان للشيخ أيضا نَفَسٌ عالٍ في تحقيقِ المسائل الدقيقة، جعله  يَسلك في بعض الأحايين مسلك أئمة الاجتهاد، وينزعُ في ذلك منزع المستقلِّينَ مِن غيرِ أن يقعَ تحت وطأة التقليد التي من شأنها أن تكبحَ جماح عقله الطُلعة الوثاب.

وإنَّ النَّاظرَ في كتبه  يجد أنه يقرر رأيه بالحجة والدليل ، ويعتذر لغيره إنْ خالفه في الفقه والفروع ، غير معنف ولا ساخط ، ولا مُتهجم ، بل يُؤكدُ أنَّ الفقه عملٌ اجتهادي يصيب المرء فيه ويخطئ، وفي كلتا الحالتين إذا صلحت النية فهو مأجور. ويجد كذلك فيها الإنصاف العلمي دون تعصب لمذهب أو شخص أو فكرة ، وفيها تقدير العلماء ، ولو خالفهم الرأي، أو أثبت أنهم جانبوا الطريق السديد في المسألة التي يبحثها، فينقل عنهم ما صفا له من أفكارهم واجتهاداتهم.

 
فمثلا  تجده يخالفُ أبا بكر بن العربي في بعض آرائه، وابن حزم، وآخرين من الحنفية والمالكية والشافعية، وتراه يقتبس عنهم، ويُكثرُ مِن ذلكَ دُون أدْنى غضاضة، أو تقليل شأن أو تصيد لما يسيئ لهم، أو يحط من مكانتهم

ونجده كذلك يعلن أنه قد تراجعَ عنْ فِكرة سابقة له، أو رأي كان يراه؛ لأن الدليل قد لَاحَ له بعد ذلك.

وأما منهجه رحمه الله تعالى في التعامل مع التراث، فقد قام على القراءة النقدية الدقيقة ما أتاح له الوقوف على بعض مواطن الخلل والإشكال، ومن ثم الاشتغال بتصحيح الأخطاء وحل الإشكالات.

وقد ظهرت قدرته العلمية وملكته الاجتهادية في بعض القضايا التي تناولها فوجدنا له آراء علمية يتفرد بها، ومسائل مهمة ودقيقة يختص بها .

وقد كان السيد عبد الله يعتز بما أنعم الله عليه من السبق إلى اجتهاداته وتفرداته،  وقد أفرد لذلك رسالة اشتملت على أهم المسائل التى لم يسبق إليها لكنها لم تتم .

قال في أولها :  فهذا تأليف عجيب، في موضوع غريب، لم أذكر فيه مؤلفاتي التي بلغت عدتها مائة أو تزيد، ولكن ذكرت فيه ما تفردتُ به مِن المسائل التي لم يسبقني أحد إليها، ولا عرج شخص عليها ، بل هي مما ادخرها الله لي، وألهمني إياها ... والمسائل التي تفردت بها، تقع في علم التفسير ، والحديث والأصول، والفقه والكلام ، والمنطق وغيرها.

ثم أجمل الشيخ هذه الانفرادات، فقال :

في علم التفسيير ، تفردت بثلاث مسائل،  وفي علم الحديث بثلاث مسائل أيضا،  وفي علم الأصول تفردت بأربع مسائل،  وفي الفقه بمسألة،  وفي الكلام بمسألة المحال؛ وهي من أعوص مسائله وأصعبها، وفي المنطق بمسألة علمية الإله،  ثم قال وتفردت بمسائل أخرى يأتي بيانها .

ومن جملة هذه المسائل التى تفرد بها الشيخ رحمه الله تعالى ما يتعلق بعلم التفسير،  فقد ألَّفَ فيه كتابا من أمتعها سماه "بدع التفاسير" وهو كتاب لم يسبق إليه.

وقد اشتمل على علم من علوم التفسير أنشأه وبين قواعده ، تضمن التنبيه على بعض التفاسير المخطئة في فهم كلام الله تعالى، والبعد عن أن تكون من جملة معانيه، لبعد لفظه عنها ، أو مخالفتها لما تقتضيه القواعد المأخوذة من الكتاب والسنة .

ولم يكن لهذا العلم وجود إلا أن الزمخشري كان يقول في الكشاف أحيانا " ومن بدع التفسير " وهو نفسه وقع فيها.

وكان الشيخ أحيانًا إذا استغلقت عليه مسألة تركها، وانتظر فيها الفتح من الله تعالى فيأتيه الفتح الإلهي بفهمها ويسارع إلى تدوينها.

ومن هذه المسائل التي استغلقت عليه سؤال يتعلقُ بسورةِ يوسف، فراجعَ التفاسير الموجودة بين يديه، فلم يجد مايشير إلى الجواب عن السؤال، وهو: لماذا ذكرت قصة يوسف عليه السلام مرة واحدة ولم تبعض، ولم تكرر كما حصل فى قصص غيرها من الأنبياء؟

وبعد ثلاثة أشهر ألهمه الله تعالى الجواب، وأثبته فى كتابه "كمال الإيمان في التداوي بالقرآن "، وغيره.

وأما ما يتعلق بانفراداته فى علم المنطق، فمنِ المعلوم أن الشيخ كان متمكنا فى علم المنطق عارفا بدقائقه، فقد تتلمذ فيه على يد علماء كبار منهم: العلامة الجليل الشيخ محمد بخيت المطيعي، والعلامة الشيخ محمود إمام عبد الرحمن المنصورى الذى مدحه السيد عبدالله بقوله "لم أر له نظيرا فى التحقيق والبحث وشدة الاطلاع ،مكث في شرح قول السعد : "العلم إن كان إذعانا للنسبة، فتصديق وإلا فتصور". أربعة أشهر.

وماتفرد به في هذا الفن ، هو بيان خطأ أهل المنطق فى تمثيلهم بالإله للكلي الذى وجد منه فى فرد وامتنع عن غيره ، فى جزء سماه "التوقي والاستنزاه عن خطأ البناني في معنى الإله "

قال الشيخ : والداعي إلى تحرير هذا البحث أني درَّستُ للطلبة بزاويتنا الصديقية شرح بناني على السلم، ولما وصلت إلى هذا الموضع وبينت لهم خطأ ماقرره بناني كغيره من المنطقيين، طلب مني بعضهم كتابة ذلك البحث ، فأحببت طلبهم لما فيه من عموم الفائدة،  وكان أنس رضى الله عنه يقول لبنيه : يا بني قيدوا العلم بالكتابة.

ومن جملة المسائل التي انفرد بها الشيخ أيضا، وهي في علم الكلام  : مسألة تعلق القدرة بالمحال وله فيها رسالة بعنوان : "رفع الإشكال عن مسألة المحال".

قال الشيخ " أثبتُ فيها بما لم يسبقني إليه أحد ، والحمد لله، وهي منتفية بضرورة العقل والمشاهدة ، كما قال تعالى: (( وَٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْـًٔا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوٰةً وَلَا نُشُورًا )) [الفرقان : 3]

وقد نبه الشيخ على أن ابن حزم غفل عن أمر خطير "وهو أنه حيث حكم بأن الله تعالى يقدر على فعل المحال ، صار ثبوت العلم والصدق والعدل له من قبيل الجائز لا الواجب، ويكون تنزهه عن الولد والجهل والكذب والظلم جائزا في حقه لا واجبا، وهذه شناعات بالغة ".

ومن المسائل التي تفرد بها أيضا وهي من علم الأصول: مسألة نسخ التلاوة التى خصها بمصنف حافل بالأدلة، وهو "ذَوقُ الحلاوةِ ببيان امتناع نسخ التلاوة ".

بين فيه أن نسخ التلاوة ممتنعٌ، وقد جعل الأسباب التي اقتضت امتناع نسخ التلاوة تسعة، من أهمها أنه يستلزم البداء ، وهو محال في حق الله تعالى.

وأن تغيير اللفظ بغيره، أو حذفه بجملته، إنما يُناسب البشر لنقصان علمهم وعدم إحاطتهم، ولا يليق بالله الذي يَعلمُ السرَّ وأخفى . إلى آخر ما ذكره رضي الله عنه في كتابه

هذا .

وقد تميزت تفرداته رحمه الله تعالى بالتنوع؛ حيث جاءت فى عدد من العلوم وسار فيها على منهج علمي واضح يقوم على ما تقرر من القواعد المنهجية في مختلف العلوم الاسلامية.

كما قام منهجه في تفرداته على الأدلة والبراهين التي يجتهد في أن تكون قوية وكثيرة وعلى التثبت والتحري والتحقيق في عرضِ أقواله وأقوال غيره من العلماء.

وقد قامت الدكتورة الفاضلة فدوى بنكيران بجمع هذه الانفرادات والإضافات العلمية في رسالة متميزة بعنوان "الاجتهادات والإضافات العلمية للسيد عبد الله بن الصديق الغماري"، فألقت  الضوء على نزعة السيد عبد الله بن الصديق الاجتهادية، وحركته التصحيحية في مجال العلوم الإسلامية، ففتحت بذلك الباب نحو دِراساتٍ مُستفيضةٍ في تُراثِ السيد عبد الله. فاللهمَّ اجزه عنَّا خيرَ الجَزاءِ.