السنة الثالثة رمضان 1444 هـ - إبريل 2023 م


د. مها سمير
النور المحمدي
د. مها سمير

تتميز المصطلحات الصوفية بتعدد دلالات المصطلح الواحد بحسب اعتبار المتكلم الذي يَكشِف عنه السياق. فنور الأنوار وإن كان يُطلق على الباري سبحانه وتعالى باعتبار الحقيقة إلا أنه يُطلق أيضًا على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنظر إلى أنه سبحانه وتعالى دل الخلق عليه بوسائل عدة هي من حيثية دلالتها عليه نور. ولكن ليس للخلق دليل على أنه سبحانه وتعالى المعبود المستحق للمحامد إلا عبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. فالعقل المجرد عن الوحي غاية ما يدركه احتياج العالم لصانع وأنه مغاير له، وأما اسم هذا الصانع وما يليق به من صفات وما يتنزه عنه وكيف يُعبد فخارج عن طاقة العقل وهو صلى الله عليه وآله وسلم المـُبلغ عن ربه المـُبين لوحيه سبحانه وتعالى.

يوضح القاشاني (ت736ﻫ) أن نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد الوجوه المعنوية الكلية للروح الأعظم. باعتبار كونه حاملًا لحكم التجلي الأول ومنسوبًا إلى مظهريته في نفسه لغلبة حكم الوحدة والبساطة عليه. فحقيقة النور المحمدي وروحه هي كونه: جامعًا لجميع التجليات الإلهية والكونية، ومنشأ لجميع أرواح الكائنات.  (لطائف الإعلام،1/500؛ 2/366)

ومن ثَّم يعرف الروح المحمدي بأنه: "عبارة عن جهة وحدة القلم الأعلى المختصة بالمظهرية الروحانية المنسوبة إلى التجلي الأول لغلبة حكم الإجمال والوحدة عليها. وإنما كان الروح المحمدي هو مظهر هذا الروح لأجل كمال طهارة مرآة قابلية قلبه التقى النقي صلى الله عليه وآله وسلم ومضاهاته في التبعية بحضرة الحق. طهارةً وتبعية يقتضيان لبقاء ما قبله قلبه الطاهر من حقائق اسم الحق الظاهر فيه." (لطائف الإعلام،1/501)

ويعرف النور الأحدي بأنه: التجلي الواحدي الأحدي، وهو التجلي الأول الذي هو "عبارة عن ظهور الذات لذاتها في عين وحدتها. فلكونه أول التعينات قال: أول ما خلق الله نورى. أى: قَدَّر-على أصل الوضع اللغوي-، وهو- أعنى هذا التجلي الأول- لما كان هو أصل جميع الأسماء الإلهية ... كان صلى الله عليه وآله وسلم هو أبا الأرواح."(لطائف الإعلام،2/366)

ومن هنا يذهب إلى أن «نور الأنوار» إنما هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكون "نوره الذي هو التجلي الأول هو أصل جميع الأنوار." (لطائف الإعلام،2/366) والوجه في تسميته بالنور المحمدي كما يوضح الأمير عبد القادر (ت1300ﻫ) في تقسيمه النور إلى: "نور الحق وهو الغيب المطلق القديم، ونور العالم المحدث وهو نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي خلقه الله من نوره وخلق كل شيء منه. فهو كل شيء من حيث الماهية، وكل شيء غيره من حيث الصورة. ... ولذا كان الكُمَّل يشهدونه في كل شيء على الدوام. حتى قال المرسي رضي الله عنه: لو احتجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين. فالمراد بعدم الاحتجاب دوام شهود سريان حقيقته في العالم كله لا شخصه الشريف. (المواقف،1 /186،185)

ولا يؤخذ من ظاهر كلامه هذا أنه يذهب إلى أن نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم مادة خلق منها كل شيء؛ لأن تعريف الماهية أو الصورة لا يؤيد ذلك. فالماهية عندهم: "هي الحقيقة، وهي العين الثابتة. ... وجميع الماهيات أمورٌ نسبيةٌ معدومةٌ لأنفسها لا وجود لها إلا في علم العالم بها لأنها- أعنى الماهيات التي هي الأعيان الثابتة- ليست سوى تعينات الحق الكلية والتفصيلية." (لطائف الإعلام،2/264، 265)، كون الماهية أمرًا لا وجود له في الخارج ليس قصرًا على التعريف الصوفي. فالشريف الجرجاني (ت816ﻫ) يذكر تعريفها عند المناطقة: بأنها "ما به الشيء هو هو. وهي من حيث هي هي: لا موجودة ولا معدومة، ولا كلي ولا جزئي، ولا خاص ولا عام. ... وتطلق الماهية غالبًا على الأمر المتعقل مثل المتعقل من الإنسان وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي." (التعريفات:223)،  أما الصورة فهي تطلق على معانٍ منها: "ما يتميز به الشيء مطلقًا: سواء كان في الخارج ويسمى صورة خارجية، أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية."

كما أن الأمير عبد القادر (ت1300ﻫ) نفسه قد اختتم كلامه بالتحذير من مثل هذا الفهم بقوله: "ولا يفهم مما ذكرناه حلول وتجزئة ولا جزئية. فإن معنى إيقاد السراج من نور سراج آخر أن الأول أثر في الثاني. فظهر الثاني على صورة الأول، بل الثاني عين الأول ظهر في فتيلة ثانية من غير انتقال عن الأول هذا غاية ما قدر عليه أهل الوجدان في التفهيم." (المواقف،1/186) فالظهور العاري عن الانتقال يمثل دائمًا بصورة الشخص البادية في المرآة.

إذن يمكن القول بأن المراد بالنور المحمدي في الاصطلاح الصوفي هو أمر في الوجود العلمي وليس له من هذه الحيثية تحقق وتشخص في الخارج. وإنما المتحقق والمتشخص في الخارج أمر آخر وإن كان له به علاقة المرآتية والصورة؛ فهو صورة لهذا «النور المحمدي» ومرآة بها يظهر ما في الوجود العلمي غير المتشخص، وأن للنور المحمدي اختصاصًا بالمظهرية الروحانية المنسوبة إلى التجلي الأول وهذا الاختصاص ما كان له إلا لكمال مرآة قابلية قلبه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم لكمال طهارته. ولكن ما المراد بالقلب هنا؟ 

للقلب عند الصوفية معنيان كما يوضح التهانوي (ت ق12ﻫ): "أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل ... وثانيهما: لطيفة ربانية روحانية، لها تعلق بالقلب الجسماني كتعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، وهي حقيقة الإنسان وهذا هو المراد من القلب حيث وقع في القرآن والسنة." (كشاف اصطلاحات الفنون، 3/496) فقيام كل شواهد الحق بالقلب، ولا يوجد منه إلا العبارة." (الهجويري، كشف المحجوب، 1/356) إذن فالمراد بالقلب الذي له كمال المرآتية ليس المضغة الصنوبرية في جسده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو المحل الذي تقوم به شواهد الحق، وإطلاق لفظ المحل عليه إنما هو لضيق العبارة فقط وليس لأي أمر آخر.

وأخيرًا أن مفهوم «النور المحمدي» يتغير الاسم الذي يُطلق عليه بتغير الجهة التي ينظر إليه بها. وبالتالي تتعدد مسمياته وقد أشار الأمير عبد القادر الجزائري (ت1300ﻫ) إلى بعضها عند تصريحه أن كون إرساله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين ليس بظهور جسمه الشريف بل المراد من حيث حقيقته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي حقيقة الحقائق ومن حيث روحه الذي هو روح الأرواح. إذ هي: الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي أول شيء فتق ظلمة العدم، وأول صادر عن الله بلا واسطة، وهي الوجود المفاض على أعيان المكونات. وقد ورد في الخبر: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر». ثم يذكر كثرة أسمائها باعتبار تعدد وجوهها واعتباراتها. مبينًا أنما يورده إنما هو نموذج فقط؛ حتى لا يظن من يطالع هذه الأسماء أنها لمسميات متعددة وليس كذلك وإنما هي كالسيف والصارم. منها على سبيل المثال: التعين الأول للحق، والقلم الأعلى، وأمر الله، والعقل الأول، وسدرة المنتهي، والحد الفاصل، ورتبة صورة الحق والإنسان الكامل بلا تعديد، والقلب، وأم الكتاب، والكتاب المسطور، وروح القدس، والروح الأعظم، والتجلي الثاني، وحقيقة الحقائق، والعماء، والروح الكلي، والإنسان الكامل، والإمام المبين، والعرش الذي استوى عليه الرحمن، ومرآة الحق، والمادة الأولى، والمعلم الأول، ونفس الرحمن، والفيض الأول، والدرة البيضاء، ومرآة الحضرتين، والبرزخ الجامع، وواسطة الفيض والمدد، وحضرة الجمع، والوصل، ومجمع البحرين، ومرآة الكون، ومركز الدائرة، والوجود السارى، ونور الأنوار، والظل الأول، والحياة السارية في كل موجود، وحضرة الأسماء والصفات، والحق المخلوق به كل شيء. (المواقف،1/181،180) ثم يختتم معقبًا: "ويكفي هذا القدر من ذكر أسماء هذه الحقيقة المحمدية لمن فهم فإنها بحر لا ساحل له." (المواقف،1/191)