
القطب الغوث، الرجل الكامل، سُكرُدَان الأولياء - سيدي أبو العباس المرسي (1)
الشيخ. عبد العزيز معروفلِي سَادَةٌ مِنْ عِزِّهِمْ * أَقْدَامُهُمْ فَوْقَ الْجِبَاهْ
إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْهُمْ فَلِي* فِي ذِكْرِهِمْ عِزٌّ وَجَاهْ
هكذا كان ينشد سيدي أبو العباس المرسي حينما يذكر أمامه اسم شيخه القطب الأكبر سيدي أبي الحسن الشاذلي، ولم لا وهو سنده وموصله إلى الله، فقد قال له القطب الشاذلي :" يا أبا العباس ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت"[1]، وقد كان فظهر بعلوم شيخه وأحواله، ونشر طريقته، ففسر مجملها وبسط مختصرها ، ورفع منارتها، وبث أنوارها، فقال فيه شيخه وسندنا وملاذنا القطب الشاذلي، لسيدي مكين الأسمر: يا زكي، عليك بأبي العباس فو اللهِ إنه ليأتيه البدوي يبولُ على ساقيه، فلا يمسي عليه المساء، إلا وقد وصَّله إلى الله.. يا زكي عليك بأبي العباس، فو الله ما من ولي لله كان أو هو كائن، إلا وقد أظهره الله عليه... يا زكي: أبو العباس هو الرجل الكامل»[2].
والسؤال الآن : من هو سيدي أبو العباس المرسي؟ وما قصته ؟ وما هي العلوم التي بثها ونشرها؟ وكيف كانت علاقته مع شيخه وتلاميذه؟ وكيف نستخلص من سيرته العطرة ما يكون لنا مصباح نور نسير به في طريق الله؟
وسأحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة في سلسلة من المقالات ، فاللهم يسر وأعن.
من هو سيدي أبو العباس المرسي؟
في يوم من أيام سنة 616هـ/1219م، أنارت مُرْسِية، بمولد رجلٍ كاملٍ سيكون له الأثر الكبير في المشرق والمغرب وسيلقّب بــ"سُكُردان الأولياء، يعني: خزانة الأولياء "[3] ، رجل ينتهي عمود نسبه إلى نسب أصيل كله فخر وعزة ونُصرةٍ للدين ، هذا الرجل الكامل، هو: سيدي أحمد بن عمر بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي البلنسي، الذي يتصل نسبه بالصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري (رضي الله عنه) سيد الخزرج وصاحب سقيفة بن ساعدة التي تمت فيها البيعة لسيدنا أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- بالخلافة.[4]
نشأ رضي الله عنه بـ"مُرْسِيه"[5] ، وإليها نسب، فقيل: المرسي، وهِي إحدى مدن الأندلس، اختطها (وضع أسس المدينة وحدودها): عبد الرحمن بن الحكم بن هشام (المعروف: بالأوسط)، وهي مدينة ذات أشجار وحدائق محيطة بها.[6]
نشأته: كان والده رجلا صالحا، يعمل تاجرا، وسيظهر أن عمل والده وسعيه للأكل الحلال سيؤثر في نشأة ولده ، اعتنى بتربية ولده، كما كانت عادة المسلمين قديما، فلما بلغ سن التعليم بعثه أبوه إلي المعلم ليحفظ القرءان الكريم و يتعلم القراءة و الكتابة و الخط و الحساب، فظهرت فيه علامات النجابة وتوقد الذهن، فحفظ القرآن في عام واحد، وأيضا ظهرت فيه علامات الولاية والعناية، فذكر سيدي ابن عطاء الله عنه أنه قال: كنت وأنا صبي عند المؤدب، فجاء رجل فوجدني أكتبُ في لوح، فقال لي: «الصوفي لا يُسَوِّدُ بياضًا»، قال: فقلت: «ليس الأمر كما زعمت، ولكن لا يُسَوِّدُ بياضَ الصحائف بسواِد الذنوب».[7]
وقد شهد فيه شيوخه وهو صغير، علامات الولاية : يقول رضي الله عنه: عمل إلى جانب دارنا خيال الستارة -وأنا إذ ذاك صبي فحضرته- فلما أصبحت أتيت إلى المؤدب، وكان من أولياء الله تعالى فأنشد حين رآني:
يَا نَاظِرًا صُوَرَ الْخَيَالِ تَعَجُّبًا * وَهْوَ الْخَيَالُ بِعَيْنِهِ لَوْ أَبْصَرَا
وللحديث بقية.
[1] لطائف المنن لسيدي ابن عطاء الله السكندري(ص:200).
[2] المرجع السابق، وينظر: تعطير الأنفاس بمناقب سيدي أبي الحسن الشاذلي والمرسي أبي العباس، للشيخ علي الرميلي الصعيدي (ص:158)، ط: الوابل الصيب ، تحت إشراف: أ د علي جمعة –قدس سره-.
[3] قال العلامة شهاب الدين الخفاجي في "شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل" (ص: 182، ط. دار الكتب العلمية):
(سُكُرْدان)، بضمتين فسكون ودال مهملة خوان الشراب. وقال العلامة أحمد رضا في "معجم متن اللغة":
دان "دخيلة فارسية": معناه الظرف والمكان، جاءت في العصر العباسي ملحقة للدلالة على معناها مثل شمعدان للمنارة التي توقد عليها الشموع؛ وسُكُردان لخزانة الشراب، ثم توسعوا فيها كثيرًا: مجلة م د: 3: 138. أفادني بهذا العلامة الهمام: الدكتور محمد وسام.
[4] أبو العباس المرسي ومسجده الجامع بالإسكندرية، لحسن السندوبي، مطبعة دار الكتب المصرية، (ص:41)
[5] بضم الميم، وسكون الراء، وكسر السين المهملة، وياء مفتوحة خفيفة، وهاء.
[6] معجم البلدان، المؤلف: شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، (5/107)، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995 م.
[7] لطائف المنن ، ص:87.