السنة الثالثة ذو الحجة 1444 هـ - يونية 2023 م


الشيخ. عبد العزيز معروف
القطب الغوث، الرجل الكامل، سُكرُدَان الأولياء سيدي أبو العباس المرسي (2)
الشيخ. عبد العزيز معروف

"رفعتَ إلي منذ عشرة أعوام"

كذا قال سيدي أبو الحسن الشاذلي لسيدي المرسي لما ذهب إلى تونس وهو شاب حينئذ، وقد أراد أن يسلك طريق الهداية، فذكر أنه سمع عن سيدي أبي الحسن، وكان معه صحبة، فقال له أحدهم: هلم نمضي إليه_ أي إلى سيدي أبي الحسن، فقال: حتى أستخير  الله، وقال: فنمت تلك الليلة فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل فلما علوت فوقه رأيت هناك رجلًا عليه بُرنس أخضر، وهو جالسٌ عَن يمينِه رجلٌ وعن يَسارِه رجل، فنظرت إليه فقال: عثرت على خليفة الزمان، قال: فانتبهتُ فلمَّا كانَ بعدَ صلاةِ الصُبح أتاني الرَّجل الّذي دعاني إلى زيارة الشيخ، فسرت معه، فلمَّا دخلنَا عَلى الشيخِ رأيتُه بالصِّفَة التي رأيتُه فوقَ الجبل؛ قال: فَدُهشتُ، فقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي عثرت على خليفةِ الزَّمَانِ، ما اسمُك؟ فذكرتُ له اسمي ونسبي، فقال لي: رُفعت إليَّ منذ عشر أعوام.اهـ  

فالمريدُ مُرادٌ، ولكن إذا صَدقَ النيَّةَ وحدثت عِندَه الهمَّة؛ أعنى همَّةَ الإرادة لا همة التنبه ولا همة الحقيقة[1]، فهمَّة  الإرادة كما يقول الشيخ الأكبر قدس سره: جمعيَّة لا يقوم لها شيء، وتُحدِث عِند الشيخ علمًا يُوصله إلى صاحبها.

وكان سيدي أحمد أبو العباس المرسي في هذا الوقت يُعلِّم القرآنَ في زاوية الفقيه محرز بن خلف، وتذكر كتب التراجم أنه دخل تونس سنة640هـ[2]

وبعدما حدث صار سيدي المرسي يتردّدُ على القطب الشاذلي،  ويحضر مجالسه التي كان يعقدها للتعليم، وأظهر سيدي المرسي نجابة وصفاء، فاختصه القطب الشاذلي بأسرار الطريق وعلل النفوس،  يقول  سيدي المرسي:  كنت مع الشيخ أبي الحسن بالقيروان، وكان شهر رمضان، وكانت ليلةَ جُمعةٍ، وكانت ليلة سبعة وعشرين، فذهب الشيخ إلى الجامع وذهبت معه، فلما دخل الجامع وأحرم رأيتُ الأولياء يتساقطون عليه، كما يتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخَرَجْنَا من الجامع، قال الشيخ: ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، «وكانت ليلة القدر». ورأيت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يقول: «يا علي، طهر ثيابك من الدنس تَحْظَ بمدد الله في كل نفس». قلت: يا رسول الله، وما ثيابي؟ قال: «اعلم أن الله قد خلع عليك خمس خِلَع: خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة التوحيد، وخلعة الإيمان، وخلعة الإسلام؛ فمن أحب الله هان عليه كلُّ شيء، ومن عرف الله صَغُرَ لديهِ كلُّ شيٍء، ومن وَحَّدَ الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أَمِنَ من كلِّ شيءٍ، ومن أسلم لله مَا يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره»؛ ففهمت حينئذ معنى قوله عز وجل: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4] [3]

نجد أن سيدي أبا الحسن علم سيدي المرسي سِرًّا من أسرار الطريق، وهو التجريد، وأن الباب الحقيقي هو باب العلم بالله، وأن لكل خِلعةٍ علة، والخِلع عطايا ومنن إلهية، فامتن الله على المريد الصادق بخمس خلع، محبة ومعرفة وتوحيد وإيمان وإسلام، فرأسها المحبة وذروة سنامها الإسلام، وبه يصل العبد إلى التجريد، وشرح هذه العبارة يطول.

وقد أحب القطب الشاذلي سيدي المرسي حبًّا شديدًا، حتى قال له: «يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت»، ولقد رأيت فيك ما في الأولياء، وما رأيت في الأولياء ما فيك.

وقـــدیـــماً قـــال فــیه شــیــخـــه ** وھو قطب الأرض ذو العلم الأعـم

إنــــمــا أنـــت أنا فـاعـــلــم بـــذا ** إن ھذا لـیــس أمـــراً مـكـــتــتم

وأثر هذا في سيدي المرسي، ولم لا فهو معلم الخير المؤدِّب المُؤدَّبُ،  فقد كان يقول كثيراً  قال الشيخ قال الشيخ، كلما ينقل كلاماً، فقال له إنسان: لا نراك قط تسند لنفسك كلاماً؟ فقال رضي الله عنه: لو أردت عدد الأنفاس أن أقول: قال الله قال الله لقلت، ولو أردت عدد الأنفاس أن أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت، ولو شئت أن أقول على عدد الأنفاس: قلت أنا لقلت، ولكن أقول: قال الشيخ، وأترك ذكر نفسي أدباً.

قَدْ رَأَيْنَا كُلَّهُمْ فِي وَاحِدٍ* ذِي بَهَاءٍ وَوَفَاءٍ وَهِمَمْ

فَي أَبِي الْعَبَّاسِ مَجْمُوعُ الَّذِي* مَنَحُوهُ مِنْ عُلُومٍ وَحِكَمْ

ثم ارتحل معه إلى مصر سنة 642 عندما حدثت فتنة ابن البراء، وفي هذا يحكي سيدي المرسي قائلًا: كنت مع الشيخ في السفر، ونحن قاصدون إلى الإسكندرية، حين مجيئنا من المغرب، فأخذني ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت الشيخ أبا الحسن،  فلما أَحَسَّ بي قال: أحمد،  قلت: نعم يا سيدي

 قال: آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته نصف يومٍ= خَمْسَمِائة عام، ثم نزل به إلى الأرض، واللهِ ما أنزل اللهُ آدم إلى الأرض لينقِصَه، ولكن نزل به الأرض ليكمِّلَه، ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله: { ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... }، ما قال في السماء ولا في الجنة؛ فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة؛ فإنه كان يعبد الله في الجنَّةِ بالتعريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفرت فيه العبوديتان؛ استحق أن يكون خليفة، وأنت أيضًا لك قسط من آدم كانت بدايتك في سماء الروح في جنة المعارف، فأُنزلت إلى أرضِ النفس لتعبده بالتكليف، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة.

ففي هذا تعهدٌ  مِنَ الشيخ للمريد، يُعلَّمَه أنَّ التكريم الحقيقي في التكليف وأن العبرة بالتمكين لا التلوين، وأن الإنسان لا بُدَّ لهُ مِن شريعة وحقيقة وبهما يكمل، وأن المحن والبلايا، والنعم والعطايا، من السنن الإلهية، ولكن انظر بعين العبودية تكون مستحقًّا للاستخلاف.

نزل القطب الشاذلي وسيدي المرسي رضي الله عنهما الإسكندرية واتخذ سيدي القطب الشاذلي دارًا بإزاء قلعة "كوم الديماس"، المعروفة الآن بكوم الدِّكة، وتزوج سيدي المرسي من ابنة سيدي أبي الحسن الشاذلي، وأنجب منها: جمال الدين محمد، وأبي العباس أحمد، والسيدة بهجة.

وفي سنة 646 هـ، اختار سيدي الشاذلي جامع العطارين لإلقاء دروسه، وفيه أقام سيدي المرسي خليفة له، فأخذ يلقي الدروس وإرشاد المريدين، وتعليم الطلاب، فكان يقرأ من كتاب الإرشاد لإمام الحرمين الجويني وكان كتابًا مُقررًا للدرس الكلامي في هذا الوقت، وهو مُصنَّفٌ على مَذهبِ أهلِ السنَّة السَّادة الأشاعرة رضوان الله عليهم، والكتاب دقيق في بابه وعباراته، ويقرأ في الفقهِ مِن تَهذيبِ المُدونة فهو مالكي، ويقرأ في الحديث مصابيح السنة للبغوي، وكان يقرأ من قوت القلوب لأبي طالب المكي والكتاب من الكتب المؤسسة للتصوف، وأيضًا ختم الأولياء للحكيم الترمذي.

ثم استأذن سيدي المرسي القطب الشاذلي في الدخول للقاهرة، فدخل واتخذ من مسجد الحاكم بالمقسِّ (جامع أولاد عنان)، ولم ينقطع عن القراءة على شيخه سيدي أبي الحسن، فذكر أنه كان يذهب كل ليلة إلى الإسكندرية يقرأ عليه من قوت القلوب، وإحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية، ومما يذكر هنا عن القطب الشاذلي أنه كان يقرأ لطلابه من الكتاب لسيبويه، وهو مرجع النحاة، وهذا يدل على مكانة القطب الشاذلي في العلم ومن ثم أصحابه.

وقد صاحب سيدي المرسي القطب الشاذلي في رحلاته الدعوية داخل مصر، حتى صاحبه في رحلة الحج الأخيرة التي انتقل فيها القطب الشاذلي رضوان الله عليه إلى الرفيق الأعلى.

وبعد وفاة سيدي أبي الحسن لم ينقطع سيدي المرسي عن التربية والتدريس، وأخذ يذهب إلى القاهرة في الصيف مع إقامته في ثغر الإسكندرية، فكان يذهب إلى مسجد الفسطاط (جامع سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه)، وما زال قائمًا على الدعوة إلى الله حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة685، وقيل: 686هـ، وكان يوم وفاته يومًا مشهودًا، ومقامه معروف يزار وأقيم عليه المسجد الحالي، وذكر حسن السندوبي في كتابه عن سيدي المرسي ومسجده: أنه لم يقم عليه بناء إلا سنة706هـ، فاللهم ألحقنا به وحققنا بعلومه ومعارفه.

بِأَبِي الْعَبَّاسِ زَالَتْ كُرْبَةٌ* عَنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ وَانْجَابَتْ ظُلَمْ

وَبِهِ شَمْسُ الْهُدَى قَدْ ظَهَرَتْ* وَبِهِ دُرُّ الْعُلُومِ قَدْ نُظِمْ


[1] ذكر سيدي محيي الدين ابن العربي قدس سره أن مراتب الهمة ثلاثة، وهي : همة التنبه، وهمة الإرادة، وهمة الحقيقة ، أما همة التنبه، فهي  هي تيقظ القلب لما تعطيه حقيقة الأنسان مما يتعلق به التمني سواء كان محالاً أو ممكناً فهي تجرد القلب للمنى فتجعله هذه الهمة أن ينظر فيما يتمناه ما حكمه فيكون بحسب ما يعطيه العلم بحكمه فإن أعطاه الرجوع عن ذلك رجع وأن أعطاه العزيمة فيه عزم فيحتاج صاحب هذه الهمة إلى علم ما تمناه.. وهمة الحقيقة هي: جمع الهمم بصفاء الإلهام فتلك همم الشيوخ الأكابرمن أهل الله الذين جمعوا هممهم على الحق وصيروها واحدة  . ( الفتوحات المكية 4/223).

[2]  حسن السندوبي ، أبو العباس المرسي (ص:47).

[3] لطائف المنن (ص: 199)،  اللطيفة المرضية لابن ماخلا، (ص:42)، ومرآة الجنان  وعبرة اليقظان (4/108).